
نصر الدين بن حديد:
ضمن ذلك الهوس الأبدي بل المرضي، المتأصّل داخل «العقل» العربي الإسلامي، منذ عصر الانحطاط، تأتي الرغبة أو الحلم، إن لم نقل «الاستمناء» بصناعة «حزب جديد» على أنقاض «نداء تونس»، يتّم من خلاله «التخلّص» من «لوثة» الماضي على أساس «روعة» الحاضر.
هوس «الخلق» أّي صياغة «الإيجابي» على أساس «السلبي» أساس فكر «الخلاص» المتأصّل ضمن ذات «المنهزمين» أو هم «الخاسرين»، أّي الحالمين بصياغة «المستقبل الوردي» من بين ثنايا «العصف المأكول». نداء تونس، صار «بطاريّة غير قابلة للشحن»، إن لم نقل صار «شظايا» لا يمكن الحلم بالعود به إلى حاله الأصلي، ومن ثّمة لم يعد تفكير الباجي (قائد السفينة الافتراضي) يتجه إلى «فكر الإصلاح» أّي «الترقيع» على شاكلة «سروال عبد الرحمان»، بل صار اللزوم بهدم المعبد على «الفاسدين»، ومن ثّمة الانطلاق في «تشييد المعبد» (الموعود)…
يمكن الجزم أنّها ليست المرّة الأولى (ولن تكون الأخيرة) التي يتّم اللجوء فيها إلى فكر «الخلاص»، حيننشأ «النداء» ذاته على هذه الفكرة، حيث جاء «النداء» وريًثا مباشًرا لما هو «التجّمع الدستوري الديمقراطي» مع حذف (بعض) وجوهه السلبيّة وكذلك إضافة (ما يجب من) «مساحيق الثورة» …
جاء «النداء» أشبه ما يكون «الحزب المعّدل جينيّا»، حين لم يأخذ وقته للنموّ، أسوة بغيره من الأحزاب، عندما لم يكن «الوقت» كافيا، لمثل هذا «النموّ» (الطبيعي)، بل كانت «الحاجة» (دائًما الحاجة) تستوجب (لدى الداخل والمحيط الإقليمي والبعد الدولي)، أن يولد هذا «الحزب كبيًرا» …
أدّى النداء دوره المطلوب، بل نجح في المهّمة أبعد من «الحلم/الطلب/الأمر»، لكن سرعان ما تبّين من في داخله، كما من في الخارج، أنّه «بطاريّة» صعبة الشحن، ليصير إلى «التّشقق» ومن ثّمة إلى «التفتّت»، وها هو يسير نحو «الاندثار».
فكرة الحزب الجديد، جربّها زين العابدين حين قبر «الحزب الدستوري» وأنشأ «التجمع الدستوري الديمقراطي»، الذي قبره الباجي، وأنشأ «نداء تونس»، مع فارق بسيط لكن في غاية الخطورة، حين استطاع «مخبر بن علي» أن يصنع «بعبًعا» دام أو سيطر لقرابة 23 سنة (وإن كان أحيانًا في شكل الصورة)، في جاء «بعبع» الباجي أشبه بنمر من «فقاع الصابون» …
لا يحتاج المرء (العاقل) لقراءة الرمل أو ضرب الأقداح، أو اللجوء إلى العرّافين ليتأكّد من التالي:
أوّلا: مخبر بن علي كان أفضل بكثير من مخبر الباجي الأوّل، ومن ثّمة يمكن الجزم (بمعنى اليقين)، أّن مخبر الباجي الثاني، سيصنع «خيال حزب» غير قابل للعيش.
ثانيا: حين وجب التذكير (للجهلة والمتخلفين ذهنيا) أّن الأحزاب لا تأتي بها طيور اللقلق وأنّها لا تنمو داخل نبتة الخ ّس (كما هو متداول في الخرافات)، فالسؤال يكون عن المادّة الخام لنعرف نوعية المنتوج وجودته…
يوسف الشاهد عاجز كامل العجز على أن يكون ذلك «البطل الخرافي» القادر على «صنع الكرامات» (حين راحت المعجزات مع الأنبياء عليهم السلام). فقط، سيكون أقصى ما يكون ذلك «الفلاّح» (وهو المهندس الفلاحي)، الذي سيضع في الأرض «بذوًرا» معّدلة جينيا، وهذا اختصاص الرجل العلمي، وهو يرجو بل يأمل ويتمنّى (والتمنّي طلب المستحيل)، أن تكون له بذوًرا يمكن زراعتها من جديد.
من الغريب أن يتشبّث هذا «المهندس الفلاحي» المختص في شأن «البذور المعّدلة جينيّا» ويأمل بل يضع كامل أمله في «بذور عقيمة»، وهو من أهل الدراية والاختصاص، حين يمكن الجزم، بل هو اليقين، أّن الشاهد (الفلاّح) والباجي (صاحب الأرض)، يدركان أنّهما سيعيدان تدوير« العتيق المتهرئ» رغبة في صناعة «الجديد»، بل هما يحلمان بالقطيعة مع «الماضي»…
لا يفكّر الباجي من الخيال، ولا يعمل الشاهد من الحلم، الأوّل خبير بأرضه والثاني مبتدأ في السياسة، لكن يعلمان أنّهما في عجز عن «اختراع» بشر غير البشر المعتادين، فقط سيتّم «تدوير الزوايا» من خلال الإعلام (الذي بدأ يهلّل) وكذلك «تربيع الدوائر» على أفواه، مدحت بورقيبة ومن ثّمة لعنته، ومن بعد مدحت بن علي ولعنته بعد ذلك وتبرأت منه، ولن تجد حرًجا في لعن «النداء» (في صيغته المقبورة)، ومدح «الجنين/الهجين» القادم على عجل. هم البشر ذاتهم، يحرّكهم «طبل المنافع» وتفرقهم «عصا المصاعب»، قبّلوا بعضهم عندما كانوا في المعارضة، وشرّعوا سيوفهم أمام «الوليمة» غير القادرة على إطعام الجميع….
مشكلة الباجي ومصيبة الشاهد، أنّهما أمام رؤوس أينعت وحان قطافها، ليحاولا من خلال «القطف/القطع» إفهام الجميع، أّن القطيعة تمّت مع الماضي، ومن ثّمة يكون «القادم أفضل»، ليكتشف كما اكتشف وأراد بورقيبة وكما اكتشف وأراد بن علي، وكما اكتشف وأراد الباجي (مرّة أولى) أّن «ما بالطبع لا يتبّدل» وأّن «عقارب السياسة» عاجزة، بل يستحيل أن تتحوّل إلى «حمامات سلام»…
عادتها الأبديّة، ومن ثّمة سيتأصل «الكيان السياسي» (القادم) ضمن ثنائيّة «الطمع» (في الوليمة) وكذلك «الانقلاب» عند أوّل إشارة على كّل ما يستطيع الباجي ضمانه وكّل ما يستطيع الشاهد الطمع فيه، هو حال من الهدنة أو الترقّب والانتظار، لتعود «حليمة» (السياسيّة) إلى أصدقاء الأمس الذين سرعان ما يتحولون (في سرعة البرق) إلى أعداء اليوم.
هي حجرة سيزيف، صنعها بورقيبة لتصل (بالميراث) إلى (سي) يوسف الشاهد.
المصدر: ”جدل”