
كثر الحديث في الفترة الأخيرة عن اتساع رقعة الانشقاقات صلب حركة النهضة وبدء خروجها للعلن من خلال تصريحات مجموعة من القيادات بشأن عدد من الملفات على غرار توجهات رئيس الحركة الجديدة سواء في اعتماد آليات جديدة لإدارة العمل داخل الحزب أو في ما يتعلق بالتحالف مع حركة النهضة إلى جانب بعض الأنباء حول المطالبة بإجراء عملية تدقيق لموارد الحزب المالية.
ومن بين التصريحات التي أثارت جدلا كبيرا على الساحة نذكر تلك التي وردت على لسان نائب رئيس الحركة سابقا وعضو مجلس الشورى حاليا عبد الحميد الجلاصي والتي انتقد من خلالها خاصة التسميات الأخيرة في سلك الولاة والتحالف بين حركتي النهضة والنداء حتى إنه وصفها في أحد الحوارات بـ”صفقة المغفلين”.
حقائق أون لاين كان لها هذا الحوار مع القيادي في حركة النهضة عبد الحميد الجلاصي للوقوف عند كل هذه النقاط واستيضاح حقيقة مواقفه المعلنة في وسائل الاعلام من جهة، وحقيقة ما يسمى بالانشقاقات صلب الحركة واتساع رقعتها يوما بعد يوم وبالتالي انقسام الحركة إلى شقين الأول يصطف وراء رئيس الحركة والثاني يعارضه.
*راجت في الفترة الأخيرة أنباء عن تصدع العلاقة بين قيادات حركة النهضة واتساع رقعة الانشقاقات صلبها. فما حقيقة ذلك؟
داخل النهضة لا يوجد انشقاق، ولا بوادر انشقاق، بل لا أحد يفكر فيه أصلا. وليس في المسألة سحر أو أسرار.
ولا شيء ينفع الأحزاب ويحميها من الانشقاقات ويحميها من آفات الترهل واللامبالاة سوى الاعتراف بالتنوع وإيجاد فضاءات الحوار والمطابخ الداخلية التي تحميه وإبداع الصيغ المناسبة لرعايته وتحويله إلى عامل ثراء، وفي النهضة نشتغل على ذلك.
ربما هناك اهتمام كبير هذه الأيام بالحياة الداخلية للأحزاب ويمكن أن نتفهم ذلك، فالأحزاب في الأوضاع الديمقراطية هي روافع الحكم، ولا شك في أن من أهم العوامل التي تفسر تواضع أداء حكوماتنا المتعاقبة في السنوات الأخيرة في المجال التنموي خاصة هي هشاشة الحالة الحزبية وتخلفها عن المطلوب وطنيا.
هذا إن أحسنا الظن. ولكن قد يكون وراء هذا الاهتمام المشط دوافع أخرى أقل “نبالة” منها محاولة إسقاط حالة المناخات داخل بعض الأحزاب وما فيها من تنافر وأحيانا من تطاحن على مجمل المشهد الحزبي بما يؤدي في الأخير إلى تكريس صورة لامسؤولية كل الاحزاب، ومن ثم النفور من السياسة والسياسيين.
هذا الأمر يدعو السياسيين للانتباه، فصراع الديكة في حزب من الأحزاب، خاصة إن كان ذو ثقل انتخابي كبير، يضر بالبلاد جملة، كما يدعو الاعلاميين إلى الانتباه، وقد تؤدي العناوين المثيرة والإسقاطات السهلة إلى ارتفاع نسبة المبيعات، وهذا من حقها، لكنها في المقابل قد تؤثر سلبا على الروح المعنوية لشعبنا في مرحلة شديدة الحساسية. ولنا أن نختار.
النهضة ليست كيانا جامدا. إنها حركة ويوجد داخلها تدافع بل مخاض من أجل صياغة الكيان المتناسب مع حاجات التونسيين إلى وعاء ديمقراطي وطني سنة 2016 وما بعدها. وهنا قد تتنوع المقاربات، وقد تختلف. ولقد أكد المؤتمر العاشر وجود توافقات واسعة حول الأسس الكبرى لهوية الحركة ومنهجها في التعامل مع الدولة والمجتمع والمحيط. فلا خلاف حول التشارك، ولا حول الانفتاح والتشبيب واحترام خصوصيات وتمايز فضاءات الفعل المجتمعي.
والآن، بعد الموتمر، نحن بصدد تنزيل هذه الخيارات. وتوجد بعض التباينات في إدارة سياسة التوافق ومنهج التفاعل مع الشركاء، واتجاه العلاقات السياسية، ومحتوى الديموقراطية الداخلية والعلاقة بين المؤسسات، وإدارة الملفات الكبرى والانتقالات الجيلية والقيادية، وغيرها.
الديمقراطية ليست وصفة واحدة. ويمكن أن تكون هناك أكثر من مقاربة لتحقيق مسمى الديمقراطية. ولذلك فالسياسة ليست معادلة رياضية ليس لها إلا حل واحد. إنها أقرب إلى الفيزياء. وتوجد طرق كثيرة توصلنا إلى روما.
*إذن كيف تفسرون التصريحات المتضاربة بين قيادي وآخر في عديد القضايا على غرار مسألة التحالف مع النداء وقضية الإدارة صلب الحركة؟
حركة النهضة لا تخفي التنوع وأحيانا التباين داخلها. إنها تعترف به، بل وتبحث عن أنسب المسالك لإدارته وتحويله إلى عامل إثراء للديمقراطية الحزبية في البلاد. فلا توجد ديمقراطية دون ديمقراطيين، ولا يمكن أن توجد ديمقراطية دون أحزاب ديمقراطية.
وقد تهدي النهضة، في سعيها هذا، تجربة متقدمة للبلاد في إدارة التنوع، و لعل المخاض أو الحراك الحاصل الآن في المؤسسات، والحوارات المفتوحة بين المناضلين يفضي إلى تبلور تيارات لها هويتها الثانوية داخل الهوية النهضوية الجامعة، و لها حقوقها وحدودها المضبوطة في الأنظمة الداخلية.
فليس هناك في النهضة اليوم من ينازع في سياسة التوافق. شخصيا كنت أحد مهندسيها، بل أشرفت طيلة خريف 2013 على لجنة الحوار الوطني في الحركة، وهي الآلية التي كانت تؤمّن المتابعة وتنسق الجهود وتقترح على المؤسسات العليا السياسات المناسبة، ليصل التونسيون بحكمتهم إلى ما وصلنا إليه من ترسيخ لمسارنا الديمقراطي.
التوافق ليس فقط فضيلة أخلاقية، إنه في مراحل الانتقال ضرورة سياسية به فقط يحفظ الأمن القومي للبلاد. والتوافق يعني التشارك مع الآخر، واحترام نتائج الانتخابات، و التعامل معها، بل أكثر من ذلك المزج البديع بين نتائج الصندوق وتشريك القوى المؤثرة حتى إن لم تحصل، لسبب أو لآخر، على تمثيل برلماني، إضافة إلى تشريك القوى الاجتماعية الكبرى.
و بالتالي أنا شخصيا لست مترددا، ولا يوجد تردد داخل الصف القيادي لا حول التوافق، ولا حول التعامل مع الحزب الأغلبي. ولكني أيضا لا أقبل أن يتحول التوافق إلى عنوان ابتزاز، أو إلى “صفقة مغفلين”، في إشارة إلى الصورة الفرنسية البليغة :”marche de dupes”.
*وماذا عن تصريحاتك الأخيرة بأن التحالف بين النهضة والنداء “صفقة مغفلين”؟
بالنسبة للحوار الذي أجريته منذ أسبوع في احدى اليوميات فقد حُرّف ووضع له عنوان مناقض لمضمونه. وقال البعض إن ذلك حصل بغاية جلب القرّاء. والبعض الآخر اعتبروه تغذية للخلافات داخل النهضة، وفسر آخرون الأمر باختلاف التقدير بين الجهة التي أجرت الحوار والجهة التي تختار العناوين… كل ذلك لا يهم، ما يهم حقا هو أن النهضويين لا ينوون التفريط في تنوعهم وتحسين ديمقراطيتهم وتطوير آلياتها، وأن المحور الأساسي لهذه التباينات هو تقدير المصلحة الوطنية وخدمتها من خلال توفير الرافعة الأساسية التي تنقل التوافق من مجرد التقاء جزئي هش إلى صياغة كتلة تاريخية سياسية واجتماعية واسعة.
ولكن الأهم من كل ذلك أنه أمام الهشاشة الحزبية السائدة، وأمام الخشية من انحراف الحياة السياسية لتصبح الأحزاب مجرد واجهة تتستر خلفها قوى المال الفاسد والغايات المشبوهة، أمام كل ذلك يستشعر النهضويون أن البلاد لا تتحمل هشاشة إضافية في المشهد الحزبي ولذلك فمع حرصهم الشديد على المحافظة على تنوعهم هم حريصون من هذا المنطلق الوطني على وحدتهم التي يعتبرونها خطا أحمر.
شكلنا حكومة هي في الصورة حكومة وحدة وطنية -ويجب ان تكون كذلك في الحقيقة- ولا خيار لنا إلا أن نوفر لها شروط نجاحها، وأن نزيح من أمامها أي عوائق يمكن أن تعرقلها أو تشوش عليها، وأمامنا بعد أسابيع قليلة مؤتمر دولي للاستثمار، ولا بد أن ينجح. وأمامنا استحقاق توزيع السلطة في البلاد من خلال الانتخابات القادمة، ولا بد أن ينجح.
*ما الذي نحتاج إليه إذن، وفق تقديركم، لإنجاح هذه المرحلة؟
الأحزاب القوية بوحدتها وديمقراطيتها من روافع إنجاح حكومة الوحدة واستحقاقات الوطن. ولذلك ندعو شركائنا، وخاصة في نداء تونس، من خلال مقتضيات الشراكة والصداقة، أيضا إلى إبداع صيغ وآليات لإدارة الحوار تقوي الأحزاب وتبعد شبهة توظيف أجهزة الدولة لفض مشكلاتها.
وأنا متأكد أن لهم من الخبرة والرصانة والمسؤولية ما يعينهم على بناء حزب قوي يحتل المواقع الأولى في البلاد اليوم وغدا، ويكون طرفا رئيسيا في ترسيخ الديمقراطية وتحقيق الانتقال.
المصدر: “حقائق اون لاين”