
علي عبد اللطيف اللافي:
تمهيد:
بدا واضحا أن النظام البورقيبي انتهى أمره مع اشتداد الصراع على الخلافة منتصف الثمانينات و أصبح ذلك جليا عشية الإطاحة بمحمد مزالي في صائفة 1986 وتزامن ذلك بهجوم النظام على المعارضة وخاصة على التيار الإسلامي، فبمجرد صدور الأحكام على قادة الاتجاه الإسلامي بدت واضحة وجهة الأحداث مع بروز نجم وزير الداخلية الجديد زين العابدين بن علي في إطار صراع المحاور داخل الحكومة والحزب الحاكم، ومن البداية كانت خطة الجنرال الرئيس واضحة المعالم، فقد تركزت على كسب الإجماع ثم ربح الوقت ثم تصفية جميع المنافسين من داخل المنظومة وخارجها في مرحلة لاحقة، وهو ما يعني عمليا فسح المجالات لكن بشكل دقيق وعلى المدى المنظور فقط ثم الإجهاز لاحقا على كل الخصوم والقوى الفاعلة حتى ولو من داخل المنظومة:
الحلقة السادسة
بن علي والتجمع في مواجهة حركة النهضة وطبيعة الاختراق المتبادل بين الطرفين (1987-2010)
1- الحزب الحاكم من تسمية “الاشتراكي الدستوري” إلى “التجمع الدستوري الديمقراطي”
لم يستطع قادة الحزب الاشتراكي الدستوري أن يكونوا في موقع قوة مع رئيس الحزب الجديد الذي وهبوه الحزب، والنجاح الوحيد الذي حققوه هو أنهم أفشلوا مهمة الملتحقين الجدد بالحزب ( يساريون أساسا) والمتمثلة في فكرة “حزب التغيير”، وبقيت النقاشات بين القادة التاريخيين وكبار الحزب عقيمة ولم تضف منهجيا شيئا جديدا سوى بعث لجان تفكير ومركز دراسات ومعهد تكوين خاص بالحزب، فتم عقد مؤتمر الإنقاذ في جويلية 1988 وأصبح مسمى الحزب “التجمع الدستوري الديمقراطي”(مقترح الجامعي المسدي والذي أصرّ على رفض تسمية “التجمع الوطني الديمقراطي”)، و أسندت الأمانة العامة فيها لعبد الرحيم الزواري، وتحول الحزب عمليا إلى أداة في يد بن علي من جهة وممر لخدمة الأجندات الفكرية لليسار ألاستئصالي بعد التحاق أهم رموزه (عاشور –قوجة –الذوادي- قريبع –الرويسي…)، وبل أصبح الحزب مجرد قطعة القماش التي سيمسح الجنرال وعائلته وأصهاره فيها كل جرائمهم إلى حدود يوم فراره….
أما الفترة الأولى فقد تركزت في إعادة هيكلة الحزب ومحاولة تبديل صورته لدى الرأي العام الوطني والدولي والعمل على استقطاب عديد النخب المعارضة سابقا عبر الترغيب والاحتواء ففي رحابه تم إعداد خطة تجفيف منابع التدين، ومن بين أعضائه تم انتداب أشخاص للقيام بمهمات عديدة ومنها تأسيس أحزاب معارضة على القياس على غرار حزب القوميين (الاتحاد الديمقراطي الوحدوي) والذي اسندت ادارته للعضو الاسبق باللجنة المركزية للتجمع، و آخر لليبراليين(الحزب الاجتماعي التحرري) بقيادة منير الباجي والذي غادر الحزب الحاكم من أجل نفس مهمة التليلي …..
2- النهضة بديلا عن “الاتجاه الإسلامي”
سارعت قيادة ” الاتجاه الإسلامي” علنيا إلى التفاعل مع أسمته يومها التحول الذي حدث في رأس النظام، كما سارعت إلى عقد مؤتمر سري في جهة صفاقس وهو المؤتمر الذي وقع فيه انتخاب الدكتور الصادق شورو، أميرا على الحركة ( يعني المسؤول الأول) في حين كان الغنوشي لا يزال سجينا، وفي إطار ذلك حاولت معالجة ملف “مجموعة الإنقاذ الوطني” وفعلا تم غلق الملف نهائيا سنة 1989 بعد إعلان الحركة تمسكها بالخيار الديمقراطي وحيادية المؤسستين الأمنية والعسكرية عن الصراع السياسي، وكان تصريح 17 جويلية 88 حاسما بأن أكد الغنوشي لصحيفة الصباح “القضية الأمنية لا تلزمنا وهي لا تندرج ضمن اهتماماتنا”…
وأقنعت الحركة بعد ذلك أنصارها وهياكلها بضرورة تغيير تسميتها وفعلا تم ذلك يوم 8 فيفري 1989، وشاركت في انتخابات 1989 وترشحت ودعمت القائمات المستقلة مما غير اللعبة السياسية فسارعت السلطة إلى الإعداد للمواجهة ودخلت النهضة بدورها في منطق المواجهة والتي ابتدأت بالاستعصاء مرورا بتحرير المبادرة ( وهو ما نتج عنه مأساة حادثة باب سويقة الأليمة)، وصولا إلى خطّة “فرض الحريات”، وهو ما جعل المواجهة مفتوحة بين الطرفين ولكن تلك المواجهة لم تكن متوازنة بتاتا فترتبات أزمة الخليج كانت في صالح النظام واصطفاف النخب وأخطاء الحركة القاتلة في حق أنصارها و البلاد إضافة إلى تسارع الأحداث في الجزائر وما ترتّب عن إلغاء المسار الانتخابي هناك، وكُلّ ذلك ترتب عنه استقالة قيادات تاريخية مثل عبد الفتاح مورو وبن عيسى الدمني و الفاضل البلدي وآخرين…
و تفرقت السبل بأبناء حركة النهضة فانقسموا بين:
+ مساجين ومطاردين في تونس: وهم حوالي 25 ألف تقريبا، على اعتبار أن عدد الموقوفين بلغ 30 ألفا منهم طبعا بقية عناصر التنظيمات الإسلامية وبعض المتدينين العاديين والذين أوقفوا بدون حجة وانما تشف من المتدينين فقط لا غير …
+ مُغتربين وفارّين: وهؤلاء قورب عددهم بحوالي 5 آلاف شخص بين الداخل والخارج…
+ متوارين : وهم بقية المنتمين بعضهم توارى وأخفى انتماءه وبعضهم الآخر انتمى إلى أحزاب أخرى بما فيها الحزب الحاكم…
3- “التجمع” ذراع للدولة البوليسية:
تحول الحزب عمليا وسط التسعينات إلى قطعة قماش مسح فيها الجنرال بن علي وأركان نظامه كل جرائمهم، فسجن بورقيبة عمليا في المنستير حتى كتب رسالته المعروفة إلى وكيل الجمهورية، ووقع التخلي عن اغلب رجال الحزب الاشتراكي الدستوري ومن بقي منهم كان مجرد رقم لا اعتبار له في هندسة السياسات أو اختيار التوجهات وتم عقد مؤتمر المثابرة سنة 1993 وبارك سياسات بن علي بالكامل، وأصبحت العناصر “اليسارية” و “الإستئصالية” هي التي تسيطر على تسطير السياسات الكبرى للحزب ووضحت ملامح نظام بوليسي مافيوزي فوت على البلاد أكثر من عقدين..
4- حركة النهضة بين المنافي والسجون والتجمع يتغوّل:
مع انتهاء إصدار الأحكام ضد قياداتها المركزية أصبحت حركة النهضة الإسلامية مكونة من أطراف ثلاث:
+ قيادات المهجر: توزع مناضلوها على أكثر من 50 دولة وان كانت الأغلبية بين السودان وباريس ولندن، وتم عقد مؤتمر 1995، وهو المؤتمر الذي قيّم المسار التاريخي للحركة وأصدر ورقة تقييمية نُشرت لاحقا، ولكن تلك القيادات اختلفت في ما بينها في إدارة عديد الملفات واستقال البعض على غرار الهاشمي حامدي و عماد العبدلي و أحمد المناعي و لزهر عبعاب وفؤاد قاسم وغيرهم كثير، في حين خيّر البعض الآخر الالتحاق بأحزاب أخرى من بينها الحزب الحاكم، أما أغلبية القيادات فخيرت الإبقاء على الحركة ودفع نشاطها الإعلامي والسياسي والحقوقي…
+ قيادات السجن: وهي قيادات توزّعت بين مختلف السجون ولكنها استطاعت إيجاد آليات للتنسيق وخوض تحركات وإضرابات داخل السجون ومنعت منطق التنازل و أفشلت عمليا سياسة اتبعها النظام في جر القواعد لطلب العفو والتعبير عن الندم، والحقيقة أن المساجين الاسلاميين أبلوا البلاء الحسن وسطروا ملاحم الصمود أمام منطق الترغيب والترهيب واستعمال منطق إجبار الزوجة على الطلاق والذي تصدت له نساء الإسلاميين بكل قوة عبر ملحمة نضالية فالإسلامية تكفلت بالبيت والأب أو الأخ السجين وتكفلت بالمهمتين الاجتماعية و الإعلامية داخل ما تبقى من التنظيم، إضافة للمواجهة اليومية مع الشعب وعسس الحزب الحاكم وتعسف الأمنيين وجبروتهم اليومي في التحقيق والمراقبة …
+ قيادات متوارية ومتخفية: وهي تختلف من جهة لأخرى ومن قطاع لآخر كان فعلها هامشيا لتقلص مساحات الفعل والقدرة على الحراك الميداني وان نجح قطاع المحاماة في مسايرة المحاكمات وفي تكوين مجوعة بارزة من المحامين الإسلاميين، في حين استطاعت بعض العناصر تأمين المساعدات الاجتماعية لبعض عائلات الموقوفين والتحقت بعض العناصر للحزب الحاكم سوى اختيارا أو اضطرارا….
في المقابل تغولت الشعب ولجان التنسيق وخنقت أنفاس المعارضين بل وكل المجتمع واستفادت من وثائق الإسلاميين وتجاربهم في لجان الأحياء والخدمات الخيرية وتحويلها لأداة في خدمة النظام وأجنداته ….
5- انحسار دور التجمع وعودة تنظيم النهضة سرّيا:
تحول الحزب خلال هذه المدة إلى قطعة قُماش كما أسلفنا ولكنها مع بداية الالفية أصبحت جدّ بالية، مسح فيها بن علي كُلّ جرائمه المالية والأمنية والسياسية وتحول إلى إطار ثان لعمل أمني يتمثل في مراقبة معارضي النظام وإحصاء أنفاس الشعب و التجسس حتى هياكل الحزب نفسه، وحدثت صراعات كبيرة بين قياداته كما استعملت الأموال للوصول إلى المؤتمر والوصول إلى عضوية اللجنة المركزية ( شراء الذمم في مؤتمر 2003 – رشاوي لعضوية اللجنة المركزية في مؤتمر 2008)، و في الثاني (مؤتمر التحدي) تم التخلي عن القروي و أصبح بلحسن الطرابلسي عضوا في اللجنة المركزية و أصبح صخر قياديا في لجنة تنسيق المرسى، وأصبح الجميع واعيا أن الحزب أصبح ملكا مُباحا لعائلتي بن علي والانتهازيين، وتبيّن أنّ ما كتبه الزيدي ومظفّر بشأنه ليس سوى سراب وتنظير نُخب لتمييع المشهد السياسي ومُغالطة الناس …
في المقابل عاد تنظيم النهضة تدريجيا في الداخل بعد انتخابات 1999، وخاصّة بعد المؤتمر السابع سنة 2001 وهو المؤتمر الذي قرر نقل القيادة إلى الداخل، وتدعم القرار في المؤتمر الثامن سنة 2007 ، فعمدت القيادات إلى التحرك وتكثيف أنشطته مع مغادرة القيادات للسجون تم اختيار الجبالي أمينا عاما، فتطورت أنشطة الحركة في الداخل والخارج ( رغم حدوث انقسامات و عودة البعض إلى تونس دون إذن القيادة)، وقد وقع تقييم جديد للمسار منذ بداية التسعينات تحت مسمى التقييم الوظيفي، وقد لعبت النهضة دورا رئيسيا في تحالف 18 أكتوبر، و راوحت مواقف الحركة بين رفعت شعار “لا يصلح ولا يُصلح” و مناداة البعض من قياداتها بتوخي المرونة السياسية وتعددت أنشطة الجناح الطلابي الذي ساهم من خلال تدعيم أنشطة “الطلبة المستقلون” كما كان لعناصر النهضة حضور قوي في مؤتمر المنستير لاتحاد الشغل وهو ما اضطر بعض أعضاء المركزية النقابية للاستنجاد بالإسلاميين لدعمهم…
الخلاصة :
تميّزت فترة الرئيس المخلوع باستئصال الإسلاميين من كل القطاعات والجهات وغابوا كليا عن الحياة السياسية وتمكن النظام من إختراق مجال فعلهم والقدرة على دفعهم للمواجهة و إحداث اختراقات تنظيمية وسياسية داخلهم، إلا أن الإسلاميين رغم أخطائهم القاتلة (دفع الآلاف نحو محرقة المواجهة والاستئصال)، فقد أحسنوا إدارة أيام الجمر بأن تركوا أرصدة مجتمعية وأحسنوا التواري مقابل تقلص اهتماماتهم وعدم الاستعداد الجيد لسيناريو رحيل المخلوع، كما استطاعت القيادة بداية من نهاية التسعينات إعادة التنظيم رويدا رويدا وبعيدا عن أعين البوليس والشُعب الدستورية واستطاعت ربح المعركة الجديدة مع النظام، مما مكنها لاحقا من حسن التموقع في أنشطة المعارضة بداية من سنة 2005 والعودة تدريجيا إلى أنشطة المجتمع المدني أيضا ومواكبة أحداث الثورة عند اشتعالها في الحوض المنجمي وبن قردان والأحداث الرئيسية بداية من 17 ديسمبر 2010 ..