
خولة العويتي:
عندما قامت ثورة الكرامة في تونس، اقترنت الشعارات المرفوعة آنذاك باجتثاث الفساد من جذوره ، فلولا استفحال الفساد في البلاد لما تغوّل الاستبداد و عربد…فهيمنة المركز و الحيف الإجتماعي و التفاوت بين الجهات ناهيك عن الظلم و السجون و التهميش كلها أوجه متشابهة لفساد تغلغل في مفاصل النظام و الدولة حتّى تحوّل إلى أشبه بـ”سياسة رسميّة” لا تمانع الدكتاتوريّة في تكريسه.
قامت الثورة ، و فرّ الفرعون ، لكنّ الغول باقٍ و يتمدّد ! فعقب خمس سنوات و نيف بعد الثورة ، و في ظل الانتقال الديمقراطي، بدأ يتبين أن الديموقراطية لا تمنع الفساد ما لم تكن هناك سياسة واضحة تقاومه و إستراتيجيّة وطنيّة نابعة من تشخيص جدّي و إرادة تصحبها الشجاعة لخوض هذه الحرب. و ليس مخفيا أن الفساد قد استشرى ، في ظلّ ضعف الدولة و تأخر الإصلاحات ، ليشمل قطاعات شتّى ، بما في ذلك “الفساد الكبير” الذي تنهل منه “القطط السمينة ” (و هي تسمية تلقى على بارونات الفساد الدسم) أو الفساد الصغير الذي يشمل حتى صغار الموظفين، و لعلّ خروج شوقي الطبيب رئيس الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد داقا ناقوس الخطر من تحول البلاد إلى دولة مافيوزيّة قبل أشهر إنذارا آخر تلته إنذارات كثيرة من ضمنها التركيز على نقطة محاربة الفساد في البرنامج الحكومي الجديد و في الخطابات السياسيّة لعدد من الفاعلين السياسيين المؤثرين في المشهد السياسي و على رأسهم حركة النهضة التي شدد زعيمها في أكثر من مناسبة على ضرورة خوض الحرب ضد الفساد بأسرع وقت و كان أول المساندين لهيئة مكافحة الفساد.
الشركة التونسية لكهرباء و الغاز STEG ، الشركة الوطنية لاستغلال و توزيع المياه SONEDE ، شبكة الخطوط التونسية TUNISAIR ، وزارة المالية ، وزارة التعليم العالي، البنوك العمومية ، وزارة الصحة التي ذاع صيط ملفات الفساد صلبها و احدثها قضيتي اللوالب القلبية منتهية الصلوحية و البنج الفاسد … إلى غير ذلك من المؤسسات و الإدارات التونسية التي ينخر الفساد عمودها الفقري و يعبّ منها المفسدون من باروناتهم إلى جرذانهم عبًّا ، وفق ما ورد على لسان رئيس هيئة مكافحة الفساد شوقي الطبيب ، متابعا دون تردد ” ليس هناك أي قطاع أومؤسسة أوجهة مهنية لم يمسها الفساد، فهناك قضاة فاسدون ومحامون فاسدون وإعلاميون وساسة في الحكم فاسدون” قبل أن يقول في ما يشبه الصفعة إن “الفساد طال جميع أوجه الحياة العامة في تونس”.
أن تكون في تونس وزارة لمكافحة الفساد ، و كذلك هيئة وطنية لمكافحة الفساد ، بغضّ النظر عن المنظمات و الجمعيات التي تزخر عناوين ندواتها و لقاءاتها بـعبارات من قبيل “دحر الفساد ” و “اجتثاثه من عروقه ” و و و ، ثمّ يطل الطّبيب بتصريح مفزع مفاده أن “قيمة الفساد في الصفقات العمومية في تونس تقدّر بنحو 2000 مليار دينار سنويا” مقارنة بـ10 مليارات دينار قيمة الصفقات العمومية، بالتالي فإن “الدولة تتكبد خسائر تقدر بـ 25 بالمائة من الحجم الإجمالي للصفقات العمومية، نتيجة الفساد في التصرف في الشراءات العمومية، وهو ما يمثل إهدارا لموارد الدولة وهو ما ينعكس سلبيا على التنمية”.
هذا و اعتبر رئيس هيئة مكافحة الفساد ان مثلث الخراب في تونس هوالإرهاب والفساد والتهريب ، مشيرا إلى أن الفساد يشكل 52٪ من الناتج الوطني الخام وهي نسبة كانت قبل الثورة في حدود 25٪. منظومة الفساد التي احتكرتها عائلتا بن علي والطرابلسي ما زالت نفسها ومن كان يعمل فيها تحولوا إلى بارونات الفساد الجدد ، مضيفا ” فهؤلاء كانوا يعملون داخلها ويعلمون كواليسها ونقاط ضعفها وقوتها وبالتالي لما فر بن علي وعائلة أصهاره تفطن هؤلاء إلى أن المنظومة ما زالت موجودة فركبوا الموجة من جديد مستغلين ضعف الدولة وأولوياتها “.
و رغم تعاقب الحكومات ، التي تصنّف ملف الفساد من أهمّ الأولويات ، إلاّ أن هذا الغول الجبهذ ليس باليسير مواجهته ، وفق ما ورد على لسان رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد الذي سبق أن صح بأن ” محاربة الإرهاب ربما تكون أسهل من مكافحة الفساد لأن الفساد تغلغل في كيان الوطن ومحاربته تتطلب مثابرة وطول نفس ومتابعة” مذكرا أن برنامج حكومته جعل “مقاومة الفساد من الأولويات”.
و لم يختلف خطاب رئيس الحكومة الجديد يوسف الشاهد ، خلال جلسة منح الثقة لحكومة الوحدة الوطنية بمجلس نواب الشعب الجمعة 26 أوت 2016 ، انه سيكون حريصا على محاربة الفساد والمفسدين بسياسة محكمة تمر عبر توضيح المهام والصلاحيات للمؤسسات والهيئات المعنية بالرقابة ، مدعما خطابه بـ10 إجراءات ستفعّل لمحاربة الفساد والمفسدين وهي : -دعم الامكانيات البشرية واللوجستية لهيئة مكافحة الفساد -دعم رقابة هيئات الحكومة -ايلاء الاولوية المطلقة على مستوى التتبع القضائي والاسراع في النظر في قضايا الفساد -تفعيل مشاريع قوانين وهي الاثراء غير الشرعي وقانون حماية المبلغين عن الفساد -احداث 10 فروع جهوية لهيئة مكافحة الفساد، ليتم تركيزها في كل الولايات قبل موفى السنة الجارية -تقديم كل اعضاء الحكومة، للتصريح على ممتلاكاتهم في غضون اسبوعين من منح الثقة لحكومته -محاربة التهرب الضريبي -محاربة الاقتصاد الموزاي
ربما ، لو تمعنا في المشاريع النظرية لمكافحة الفساد و القضاء عليه ، لأحسسنا بالرضى على ما تزخر به من شمولية و إحتواء للملفّ ككلّ ، لكنّ التطبيق يختلف تماما عن الواقع ، خاصة في ظلّ تغيير تسمية “وزارة الوظيفة العمومية و الحوكمة و مكافحة الفساد” لتقتصر على اسم “وزارة الوظيفة العمومية و الحوكمة” .. فلو وقع التقصير في الملف ، على من سيقع وزر الحساب آنذاك؟؟؟ و من الواضح بشكل كبير أن الإقدام على خطوات عمليّة في إتجاه محاربة هذه الآفة خلال الستّة أشهر الأولى من عمليها ستكون إحدى العناوين الكبرى للحكم على حكومة يوسف الشاهد بل لعلّ هذا المدخل سيكون محددا لمدى حفاظها على السند السياسي و المدني الواسع الذي تحظى به حاليا.
المصدر : الشاهد