تحاليل

تفكك الاتحاد الأوروبي من الخاسر ومن المستفيد؟ التداعيات على منطقة المغرب العربي.

 

بقلم مقداد إسعاد:

يعد الاتحاد الأوروبي 510 مليون نسمة متوزعين على 28 دولة عضوة. تؤوي أربع دول منها لوحدها نصف ساكنته وهي  ألمانيا (81 مليون نسمة)، فرنسا (66)، المملكة المتحدة (65) وإيطاليا (61). هو التجمع الجهوي الأقوى اقتصاديا في العالم قبل الولايات المتحدة، اليابان ثم الصين. يعد تكوين الاتحاد الأوروبي مثالا فريدا في العالم. انتصر على عوائق وصعوبات كبيرة ليحقق هذا الشوط المتطور على طريق الوحدة في عملية تاريخية سارت إلى هدفها بخطى ثابتة. لعل العاملين الأولين لهذا النجاح هما الديمقراطية والديناميكية الاقتصادية يأتيان في مقدمة سلسلة من عوامل متداخلة أخرى، مثل الخوف من الحرب التي أكلت الأخضر واليابس لمرتين في القرن الماضي وكذلك المستوى العالي للتنظيم الإداري وأيضا  الثروة الطائلة التي تراكمت للمنطقة التي تمرست على استغلال الشعوب الضعيفة واستعمارها بدأ باكتشاف أمريكا إلى تقسيم أفريقا في مؤتمر برلين سنة 1885.

عوامل اجتمعت لتعطي لأوروبا قوة داخلية جعلتها تندفع إلى الخارج وتتمدد في الفراغات من حولها. فراغات في الجغرافيا لكن أيضا على مستويات الفكر والإنسان أيضا. خارجها، اعتمدت أوروبا التنافس الايجابي الذي ينتهي بالتفاهم واقتسام البلدان والثروات، لكن داخلها اختلف الأمر ولم ينجح التعايش والتوافق وحلت الحرب محلهما. حرب هدمت الكثير حتى جعلت السلم مطلب الجميع، انبرى له عارفون فاهمون مثل روبار شومان الفرنسي و كونراد أدينوار الألماني، وضعوا له آليات ناجعة تغلبت على الأحقاد والخلافات وتعدد الأعراق واللغات. أوروبا “ضيعت لاتنيتها” وأحلت محلها لهجات تطورت لتصبح لغات عالمية بامتياز. أولاها الانكليزية فالاسبانية فالفرنسية ثم الألمانية.

نذكر بمحطات ثلاث في حياة هذا الكيان كمفاصل ومعالم في بناء تاريخي متدرج وثابت. سنة 1951 أسست ست دول المجموعة الأوروبية للفحم والصلب – 1957 اتفاقان، الأول حول تأسيس السوق الأوروبية المشتركة والثاني حول المجموعة الأوروبية للطاقة النووية – 1985 اتفاقيات شنقن – 1992 إنشاء الاتحاد الأوروبي بميثاق “ماستريتش” الهولندية.

المملكة المتحدة التي تغادر الاتحاد الآن وشعبها مقسم بين الانفتاح والانغلاق أو بالأحرى بين التوجه شرقا إلى أوروبا أوغربا إلى أمريكا، ليست بلدا مؤسسا للاتحاد الأوروبي. هي التحقت به سنة 1973 كالدولة الثانية عشر بعد محاولات عديدة وقف ضدها الجنرال ديغول، ولم يسمح لها إلا بعد موته بالالتحاق بالمجموعة  لكن على اثر استفتاء للشعب الفرنسي. تغيرت الأوضاع والظروف وها هو الرئيس الفرنسي هولاند اليوم، وليس وحده يجتر بكل مرارة خروج المملكة المتحدة الذي أحدث صدمة أذهلت العالم كله. ولعلها تنهي الاتحاد أصلا وكذلك بريطانيا العظمى نفسها. وأيا ما كان فان الاتحاد الأوروبي لن يكون أبدا وإطلاقا كما كان قبل استفتاء الانكليز.

للتذكير فإن الرئيس الفرنسي الجنرال  ديغول كان يعرف بصموده ضد نفوذ العم صام، لمساندة هذا الأخير لاستقلال الجزائر وأيضا لتراكمات تاريخية جعلت من فرنسا تفشل كل مرة تحاول فيها التمدد في العالم الجديد حتى وصل الأمر بالإمبراطور “نابليون بونبارت” أن يبيع إقليم “الويزيان” ضمن ما عرف بفرنسا الجديدة للولايات المتحدة الناشئة والتوجه جنوبا نحو مصر ثم الجزائر. مثلت هذه الأخيرة مفخرة فرنسا واتخذ منها ديغول عاصمة لفرنسا الحرة لما احتل الألمان النازيين  نصف بلده في الحرب العالمية الثانية. نعم كانت الجزائر البيضاء عاصمة لفرنسا من سنة 42 إلى 44، وكأن القدر كان يحضرها لتكون عاصمة التحرر العالمي. نحسب أن التاريخ ستكون له كلمته في ما ستؤول إليه الأوضاع عالميا بعد الاستفتاء البريطاني.

ورغم أن فرضية نجاح دعوة الخروج من الاتحاد كانت واردة إلا أن المتتبعين انتظروا حتى وقعت ليشعروا بالصدمة، وكأنهم كانوا يرفضون أن يحدث هذا الحلم المرعب. راح كل يحسبها، ماذا يربح وماذا يخسر من هكذا نتيجة؟

وجدتني كمغاربي ملتزم وصاحب مشروع وقضية أفكر لمغربي العربي ما نصيبه من هذه الأحداث؟ وضعت نفسي مع كبار العالم، هي قناعة عندي أنني كبير كمغاربي. كبير بموقعي الجيواستراتيجي متوسطا للمعمورة المسكونة، كبير بثرواتي الطبيعية الهائلة، كبير بثرواتي البشرية الشابة، كبير بجاليتي الحية، كبير بتاريخ ناصع، كبير بتنوع ثقافي، والقائمة لعناصر القوة تطول.

أوروبا اليوم تبدو كالفريسة، تداعت الأمم على قصعتها، تنهشها وتحسب حسابها. منها الأسود ومنها الضباع. لعل الضبع الواضح يكون إسرائيل العنصرية بذاك العدد الذي لا يكاد يذكر من بني دينها الستة عشر مليون لا أكثر متفرقون عبر عواصم العالم، يكيدون للإنسان من أجل البقاء، قالوا ليس علينا في الأميين سبيل. حسبوا أنفسهم “شعب الله المختار” بجيناتهم وليس بعملهم. لم يشفع لهم أن أوروبا هي من سلطهم على أرض فلسطين بعد أن شردوا أبناءها. إسرائيل يزعجها الاتحاد الأوروبي رغم أنها هي المستفيد الأول منه، لكنها لا تريد ذكرا لحقوق الإنسان، ولا صعود علم فلسطين ولو كانت أشلاء دولة. لعلها وجدت أن الاتحاد الأوروبي يزعجها بمقترح الدولتين وتمنت إضعافه ببتر جناح هام من أجنحته.

الولايات المتحدة هي أيضا تستفيد من عودة أجدادها إلى حاضنتها تتقوى بهم على بلدان صاعدة تتهدد مكانتها مثل الصين وروسيا. هذه الأخيرة هي أيضا تكون سعيدة بما آل إليه وضع الاتحاد الأوروبي، لتمد في نفوذها في أوكرانيا وصربيا والشرق الأوسط وغيره.

أما الاتحاد الأوروبي أو ما تبقى منه فهو على خطر عظيم. تذهب التوقعات الأكثر تفاءلا بشأنه إلى تقلصه إلى مستوى لا يكون كما كان، حتى يصل تحلله إلى نواته، أي الثنائي ألمانيا-فرنسا. تلتفت كل واحدة  من الدولتين إلى محيطها القريب جغرافيا، لغة وتاريخا ومصالح. ألمانيا والنمسا وبعض من سويسرا من جهة، وجنوب القارة اسبانيا فرنسا إيطاليا من جهة أخرى. هؤلاء مرتبطون بجنوب المتوسط وخاصة مغربه الكبير. لن يستطيع الأوروبيون هذه المرة أن يتمددوا في فراغه كما فعلوا في القرنين التاسع عشر والعشرين. ألمانيا وجدت في تركيا حليفا قويا على الأقل منذ أخذت فرنسا تنهش جوابها. وزن تركيا كبير وجاليتها فاعلة في ألمانيا. لا شك أن تركيا هي أيضا تستفيد من تفكك الاتحاد الذي رفضها لإسلامها. وهي في حال تحلل السيادة الأوروبية وعودة السيادات القطرية سيكون لها هامش تحاور وتبادل أكبر.

نحن المغاربيون اليوم لسنا فارغين بل “ملآنين” حسا ومعنى. لنا من الأوراق الرابحة ما لا يحصى. لعل واحدة من أهمها، لم نقدرها حق قدرها وهي جالية بتعداد تسعة ملايين، وهي في تزايد مطرد، تشهد تحولات نوعية أيضا في مستوياتها الثقافية والاقتصادية. هي جالية ليست كمثيلاتها في المعمورة اليوم لأنها تنتسب إلى ثقافة غير ثقافة مستقبلتها أوروبا، مما يجعلها تفيد بما تأتي به من تنوع وتضر وتتضرر إذا غابت قواعد التعايش والتسامح.

هذا الاختلاف الثقافي مع التعايش المفروض على الجميع ينتج عنه حتما عودة على الذات ومراجعات جريئة ومفيدة تجنبا لصدام الثقافات والحضارات، والحياة أقوى من الموت. دول جنوب أوروبا وخاصة  فرنسا ستجد في المغرب العربي الشريك المنطقي الأقوى والأنسب للتكامل الاقتصادي وللتفاهم  الثقافي. له حاجيات كثيرة أفواه تأكل وعقول تبحث ومؤسسات تتشارك ومواد أولية تحول… المغرب العربي يسترد مكانته كبوابة إجبارية نحو قارة أفريقيا الواعدة بنسب نموها العالية وموادها الأولية النادرة والوفيرة. بين أوروبا الجنوبية والمغرب العربي تاريخ طويل لكنه للأسف يفصلهما لأنه من صنع الاستعمار، فهل حان الوقت لنكتب نحن للأجيال القادمة على الضفتين تاريخ التنمية والتعايش والتنوع والاحترام المتبادل؟؟؟

المغرب العربي شريك مهم لدول الجنوب، تربطه روابط كثيرة مثل اللغة الفرنسية وطرق التسيير الإداري والبنكي والجامعي والصحي وغيره، كما تربطه بشكل متصل قنوات الاتصال وأنابيب الغاز ورحلات الطيران. لعل ديناميكية تجارية تخلق الحاجة إلى مزيد الروابط مثل الإنفاق أو الطرق السيارة عبر مضيق طارق ومن صقلية إلى تونس، ثم يترتب عليها تدعيم البنى التحتية على تراب المغرب العربي.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق