
نصر الدين بن حديد:
تحمل النهضة٬ الفكر والحركة والقيادة٬) أسوة بالطيف الإخواني) «عقدة ذنب»٬ عمل هذا الفكر وهذه الحركة وهذه القيادة٬ على تبديدها٬ أو بالأحرى «إثبات» أنّهم٬ ليسوا كما يتخيلهم «الطرف المقابل» أو أّن هذا الفكر وهذه الحركة وهذه القيادة٬ عرف من «التغيّرات» ما يجعله «مقبولا» أو (وفق التعبير الغربي) «قابلا للمعاشرة» .
زيارة وفد من حركة النهضة إلى عاصمة فرنسا باريس٬ وهذا الكّم من اللقاءات التي كانت مع هذا الطيف من القيادات الفرنسيّة٬ يثبت ما يلي:
أوّلا: أّن الزيارة تجاوزت «صناعة الصورة» من الطرفين٬ وما هو تسويق (طبيعي بل عادي) للعلاقة بين الطرفين٬ التي تعود إلى عقود٬ خاصة «زمن الشتات» ووجود «قيادات الحركة» على الأرض الفرنسيّة٬ وما كان من «تعاون» مقابل «التوتّر» أحيانًا٬ لّخصه ملّف الشيخ «صالح كركر» رحمه الله…. ثانيا: أّن فرنسا تريد أن تجاوز ما كان من «جفاء» (على أرض الواقع)٬ بينها وبين هذا «الحزب» (التونسي)٬ والذهاب معه في علاقة «مصالح مشتركة» كما «المنافع المتبادلة»٬ في محاولة لإغلاق ملّف «الجفاء» الذي مرّت به العلاقات.
ثالثا: أّن فرنسا بدأت تعّدل أوتارها «التونسيّة»٬ ليكون السؤال بل التساؤل٬ إن كانت «غسلت يديها» من «حلفائها التقليديين» (في تونس)٬ أم هي ترغب في «توزيع البيضات» (الفرنسيّة) على «سلال حزبيّة» أكثر في البلاد.
يبدو يقيًنا أّن فرنسا تريد كما النهضة طّي «صفحة الماضي» أو على الأقّل طّي جزء منها٬ ليقين الطرفين أّن التوتّر بينهما لا يخدم مصالحهما٬ وكذلك ارتباطا بحجم الرهانات التي تقف أمام كّل منهما:
أوّلا: فرنسا التي أصبحت تعيش «هاجس» الاسلام السياسي٬ وتبحث عن أّي «مدخل» (إسلامي بالتأكيد)٬ يمكّن من فّك هذه الشفرات.
ثانيا: النهضة التي تريد أن تطمئن الملائكة كما الشياطين٬ أنّها «حمامة» (كما هو شعارها) تبغي الخير للجميع٬ بل هي الخير ذاته.
الهاجس «الداخلي» حاضر أو هو «غالب» في هذه اللقاءات أو الغاية من ورائها: فرنسا تريد السيطرة على «الطيف الإسلامي» القائم على أراضيها٬ والكبرى» فرنسا٬ بل طبّعت معها٬ ومن ثّمة على تونس) أنّها تجاوزتهم إلى «حليفتهم الأولى والنهضة تريد تبليغ «التيار الاستئصالي» (داخل «هؤلاء» (حلفاء فرنسا الأوّل في تونس) أن يراجعوا حساباتهم.
يمكن الجزم٬ أّن النهضة٬ وخاصّة «عقل راشد الغنوشي» لم يتخذ «خطة دفاعيّة» (فقط) خلال هذه اللقاءات مع «قيادات فرنسيّة» (هاّمة) على رأسها وزير الخارجيّة٬ بل أراد تسجيل بعض الأهداف٬ أهّمها وجود امرأة «محجبة» ضمن الوفد٬ في بلد يعتبر الحجاب٬ رمًزا دينيّا «مرفوًضا» أو دون الرغبة الجامحة في محاربة هذا «الرمز» الديني…
الفوز الكبير الذي حققته النهضة من اللقاء ذاته قبل الحديث أو الدخول في تفاصيل المحادثات٬ يمكن في جعل «فرنسا» (رائدة العلمانيّة) تتجاوز محاذيرها التقليديّة٬ خاصّة لدى «الحزب الاشتراكي» وتتنازل بل ترضخ أو هي تعترف بوجود النهضة في صورة «الرقم الأصعب» سواء تعلّق الأمر بالمعادلة التونسيّة أو هي الخارطة الاسلاميّة وما تعرف من توترات أو تشهد من حرائق٬ سواء في العراق أو سورية أو حتّى ليبيا وتونس.
في المقابل٬ تستطيع فرنسا (أسوة بالعقل الغربي) أن تفصل أو أن تجعل «موانع» بين عقلها «المفكّر» مقابل تصرّفها «البراغماتي»٬ أّي أّن استقبال قيادات النهضة في باريس٬ يعني (وهنا الخطورة بمعنى الأهميّة) أّن باريس تريد تجربة «وسائل أخرى» وكذلك «أدوات بديلة» دون أن تكون «شهدت» انقلابات فكريّة أو تغيّرات في «المقاربة»…
ذلك هو الفارق بل هو البون بين الطرفين: نهضة تنادي وتعلن وتباهي بأنّها فصلت «الدعوي» عن «السياسي» في حين لا تزال فرنسا على عقيدتها «العلمانيّة» القائمة على مقت الدين وبالأحرى الدين الإسلامي. كّل ما في الأمر أنها غيّرت القّفاز في التعامل مع الشأن الاسلامي٬ مدركة ومعوّلة على «عقدة الوجود» لدى هذا «الطرف الإسلامي» (أي النهضة) الذي سيبذل جهدا (ومن ثّمة خدمات) ليثبت لها (أّي فرنسا) أنّه «تغيّر»…
يدرك راشد الغنوشي٬ أّن النهضة ربّما٬ ربحت معاركها٬ بالنقاط ومستحيل أن يكون ذلك بالضربة القاضية٬ بل هي تحاول تحصيل أنصاف النقاط وأرباعها٬ بل أعشارها وأجزاء يسيرة منها٬ لتثبت أنّها «قابلة للمعاشرة»٬ وكذلك (وهنا قراءة العقل الغربي) أنّها «أنفع» من الحلفاء التقليديين….
تعلم قيادة النهضة بل هي تدرك٬ أنّها لن تستطيع أن تفتّك «المكانة العاطفيّة» التي تحوزها «الأطراف» (التونسيّة) المتحالفة تاريخا مع فرنسا٬ وبالأخّص مع «الحزب الاشتراكي» (قلعة العلمانيّة الأولى في فرنسا)٬ لكّن تعمل (داخل تونس) بل عملت٬ وقد جعلت من ذلك خياًرا «استراتيجيا»٬ حين التصقت بحركة نداء تونس٬ بل بذلت له ليرضى أكثر مّما يتخيّل٬ سواء خلال «لقاء باريس» أو ما قدمت بعدها٬ بدءا بالتطبيع مع «رموز الفساد» وصولا إلى اعتبار «التوافق» خياًرا استراتيجيا….
فرنسا٬ التي ترى حلفاء «العاطفة» خارج السباق (في تونس) أبعد ما يكون عن لعب الأدوار الأولى٬ بل هم «خارج التغطية» منذ الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة الأخيرة٬ تصرّفت كما يتصرّف «العقل الغربي» أّي فصلت «القناعات الأيديولوجيّة» وحتّى «الفلسفة الوجوديّة» عن «القرارات البراغماتيّة» وكذلك «الخطوات الانتهازيّة»٬ في حين وفي المقابل٬ تعلن النهضة (في الظاهر) أنّها «تابت» عن ماضيها٬ بل قطعت معه….
أّي في المحصّل٬ نحن نقف أمام نمطين من الأقنعة٬ وصنفين من «التقيّة»: واحدة (فرنسيّة) معلنة وصريحة٬ ترفض مناقشة قناعاتها٬ وأخرى «النهضة» أسوة بما هو العقل العربي تعشق «جماليّة الصورة»٬ تقسم في أغلظ الأيمان أنّها «تابت».
المصدر : جدل