
د.مصطفى التواتي (*):
- “نداء تونس” و ثورة 14 جانفي:
إذا كان هناك حزب سياسيّ في تونس اليوم قد انبثق من رحم المسار الذي أعقب ثورة 14 جانفي 2011، فهو بلا منازع حزب «حركة نداء تونس»، لأنّه جاء بديلا وتجاوزا لفشل الأحزاب القائمة ، التاريخية منها والمستحدثة ، إبّان انتخابات 23 أكتوبر2011، في الاستجابة لمستحقّات الثّورة وأهدافها.
ولكنّ تراكم السّلبيّات الحاصلة في البلاد بعد الثّورة، وتدهور الأوضاع الأمنيّة والبيئيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والتّربويّة، جعل البعض حتّى في «نداء تونس» يعبّر عن موقف محترز من هذه الثّورة، بل قد يراها قوسا مزعجا يتوجّب غلقه واستئناف ما كان ساريا من قبل باعتبار أنّه لم يكن في الإمكان أحسن ممّا كان.
إنّ هذه الأصوات مهما كان حسن نوايا أصحابها لا يمكنها إذا تمادت وتطوّرت إلاّ أن تلحق الضّرر بصورة الحزب ومصداقيّته بل وبهويّته باعتباره كما بيّنا سابقا وليدا شرعيّا لمرحلة ما بعد هذه الثورة ولا يمكن له إلاّ أن يستمدّ برامجه وشرعيّة نضالاته من أهدافها وانتظارات القائمين بها والدّاعمين لها من شباب مقهور وجهات مهمّشة وطموحات محبطة وأصحاب مشاريع اقتصاديّة معطلة. وكلّ ذلك يحتّم علينا أن نقوم بعمليّة تقييميّة جديّة وموضوعيّة انطلاقا من أنّ ما حدث بين 17 ديسمبر2010 و14جانفي 2011 كان حراكا ثوريا من نمط جديد امتزجت فيه خصوصيات الواقع التّونسيّ مع التّحوّلات الكونيّة في مطلع عصر تكنولوجيا الإعلاميّة والاتّصال.
إنّ الثّورات تحدث عادة عندما تتوفّر مجموعة من الشّروط: جميعها أو بعضها، ويمكن تلخيصها في النّقاط التّالية:
ـ حدوث تحوّلات ديمغرافيّة نوعيّة وكميّة بشكل لا يسمح بتواصل النّظام السّلطوي القائم.
ـ استفحال الفساد وسوء الحوكمة إلى الحدّ الذي يهدّد بانسداد قنوات التّنفيس الاجتماعيّ التّقليديّة.
ـ تدهور المنظومة القيَميّة المقترن عادة بتدهور المنظومة التّربويّة والثّقافيّة.
ـ اختلال التّوازن بين منتجي الثروات والمستفيدين منها، خاصّة إذا اقترن ذلك بتغيير جذريّ في طبيعة العمل وتقنياته وقيمته .
ولا شكّ أنّ المتأمّل في الواقع التّونسيّ طوال العشريّة التي سبقت الثّورة يدرك جيّدا أنّ مختلف هذه الشّروط قد اجتمعت لتنتهي الأمور إلى ما انتهت إليه دون أن تفاجئ أيّ متابع حصيف. وكان على النداء أن يقوم بعمل تقييميّ يخرج منه بجرد لنقاط القوّة والضّعف في النّظام الذي أرسته دولة الاستقلال إلى حدود قيام الثورة، ورصد دقيق لما ينبغي القطع معه ولما ينبغي إصلاحه أو تطويره، وذلك في مجال العدالة الاجتماعيّة والجهويّة و ترشيد الحوكمة وإحكام الشّفافيّة وإعادة النّظر في البنى السّلطويّة على ضوء الأوضاع الدّيمغرافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة المستجدّة وكذلك بالمراجعة الجذريّة للنّظام التّربوي والثّقافي الذي استفرغ كلّ طاقاته ولم يعد قادرا على مواكبة مجمل التحوّلات الأساسيّة التي تعيشها البلاد، رغم النّجاحات التي حقّقها في العقود السّابقة.
وقد تضمن البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للحركة فعلا العناصر الأساسية لما هو مطلوب في هذا الغرض ومن البديهيّ أنّ مثل هذا البرنامج ، وبارتباطه بموقع الحزب الآني والمستقبلي كحزب وليد لمسار تحقيق أهداف الثّورة، وفي علاقة أيضا بكونه سليلا ووريثا للحركة الإصلاحية والوطنيّة بأبعادها التقدّميّة الفكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والثّقافيّة.
وبالضّرورة أيضا، وبناء على كلّ ذلك، فإنّ تموقع الحزب على الرّقعة السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة لا يمكن أن يكون إلاّ في الوسط الواسع باعتباره حزبا اجتماعيّا ديمقراطيّا قائما على التّصالح والوفاق التّاريخيّ الواسع بين القوى والشّرائح المؤمنة بقيم التقدّم والحداثة على اختلاف مواقعها في الدّورة الاقتصاديّة ووظائفها في عمليّة خلق الثّروة الوطنيّة.
وهنا بالذات تتأكد ضرورة الرافد الاجتماعي وأهمية دوره في التعبير عن مصالح الفئات الشعبية المحرومة والجهات المهمشة وتطلعات الشباب إلى الكرامة والشغل ونضالات نساء تونس من أجل المساواة التامة والقطع النهائي مع عهود الغبن.وبذلك يتحقق التوازن في سياسات الحركة بين مصالح رأس المال الوطني والمصالح الاجتماعية والوطنية الواسعة وتتدعم هوية الحزب الوسطية الاجتماعية الديمقراطية.
- تحالفات الحزب وتمايزاته:
لا يمكن لأي حزب جدي أن يبني تحالفاته بعيدا عن هويته وفي مخالفة لتطلعات قواعده وأنصاره وناخبيه.وفي هذا السياق فإنه على حركة النداء أن تعمق النظر في قضية التحالفات والتمايزات مع الأطراف السياسية الأخرى انطلاقا من الثوابت التي انبنت عليها والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية :
ـ حركة نداء تونس هي حزب وسطي اجتماعي ديمقراطي.
ـ حزب قائم على الإيمان بوجود أمّة تونسيّة ذات هويّة متميّزة وخصوصيّة حضاريّة ساهمت في بلورتها عوامل التّاريخ والجغرافيا السّياسيّة ومن مقوّماتها الأساسيّة لا الحصريّة الدّين الإسلاميّ واللّغة العربيّة والثّقافة التّونسيّة بأبعادها ومكوّناتها المختلفة عبر تاريخها الطويل وفي محيطها العربي والمتوسطي والإفريقي.
ـ حزب يعتبر نفسه وريثا شرعيّا وتعبيرة متطوّرة للحركة الإصلاحية والوطنيّة بمختلف أبعادها وروافدها وتجلّياتها، وبالتّالي فهو مؤتمن للحفاظ على مكاسبها والعمل على تطويرها وخاصّة في مجال مدنية الدولة والتعليم وحقوق المرأة والأحوال الشّخصيّة.
ـ حزب يعمل على تواصل الدّولة التّونسيّة الحديثة وتطوّرها باعتبارها دولة حرّة مستقلّة قائمة على التّوفيق بين قيم الأصالة والمعاصرة وعلى النّظام الجمهوريّ الدّيمقراطي التّعدّدي واللاّمركزي ، الضّامن للحقوق والحريّات ولعلويّة القانون ورشد الحوكمة والعدالة بين الجهات والفئات والأجيال والمنفتح على المحيط الجغرافيّ المباشر والكونيّ في إطار الاحترام المتبادل والحرص على السّيادة الوطنيّة وقيم السّلم والتّعاون بين الشّعوب.
ـ حزب ولد مباشرة للتّجاوب مع طموحات التوّنسيات والتّونسيين والشّباب خاصّة والتّفاعل مع مخاوفهم المتولّدة من الصّدمة التي أحدثتها نتائج انتخابات 23 /10 /2011 بانحرافها بل وتضادّها مع أهداف الثّورة ومطالبها المشروعة في الحريّة والعدالة والكرامة.
ـ حزب يقوم برنامجه الاقتصادي والاجتماعيّ على السّعي إلى تثبيت منظومة تنمويّة شاملة ومستدامة قائمة على اللاّمركزيّة والدّيمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة ، تحافظ فيها الدّولة على المسؤوليّة الأولى في التّخطيط والبرمجة والرّقابة والتّعديل، وضمان الخدمات الأساسيّة وإدارة القطاعات الإستراتيجية والحفاظ على سلامة البيئة وحسن استغلال الموارد الطّبيعيّة والبشريّة وتطويرها مع اعتبار القطاع الخاصّ طرفا شريكا في العمليّة التّنمويّة ومحرّكا أساسيّا في الدّورة الاقتصاديّة في إطار التّوزيع العادل للجهد والثروة عبر منظومة جبائيّة شفّافة وعادلة وفي كنف حوكمة مركزيّة وجهويّة ومحليّة رشيدة لا تسمح بظهور الحيف ولا الفساد. ولا شكّ أنّ كلّ ذلك يحتّم مراجعات هيكليّة اقتصاديّة وإداريّة وماليّة أساسيّة كما يستوجب تجديدا جذريّا للنّظام التّربوي والتّعليميّ في مختلف المستويات بما في ذلك خطط البحث العلمي والتّجديد التّكنولوجيّ إضافة إلى التّفكير الجدّي والعاجل في إعادة بناء منظومة ثقافيّة تتجاوب مع طموحات الشّباب والنّساء ومختلف شرائح المجتمع التّونسي بعد الثّورة في التّحرّر والعزّة والمشاركة والإبداع والانفتاح على قيم حقوق الإنسان الكونية.
ولنا جميعا أن نتساءل هل راعت قيادة الحزب كل هذه المبادئ في ضبط العلاقات الحالية مع حركة النهضة وخاصة في صلب الحكومة وما هي آفاق هذه العلاقة ؟ وذلك دون أن يغيب عنا أن وجود حركة نداء تونس يستمد شرعيته أساسا من إيمان شرائح واسعة من الشعب التونسي بأنها الحركة السياسية الأقدر على تجنيب البلاد مخاطر الإسلام السياسي.
أما بخصوص علاقة الحزب بالحكومة ورئاستها في إطار وضعيته الحالية كحزب فائز لا يحكم ، واعتبارا لتعهداته الانتخابية والتزامات برنامجه الاقتصادي والاجتماعي ، فإن الأمر يستدعي حوارا ديمقراطيا ، صريحا ومعمقا ، خاصة بعد مضي أشهر على هذه التجربة.
- أي مؤتمر لـ «النداء» اليوم؟
في ضوء المعطيات الداخلية للحزب التي يعرفها جيدا كل الندائيات والندائيين والتي ظهرت بعض إفرازاتها على الساحة العامة ، يتم الحديث اليوم ومنذ مدة عن المؤتمر المزمع عقده ، وخاصة في ما يتعلق بالصيغة التي سيتخذها ، وقد اختلف الفرقاء بين منادين بالصيغة الانتخابية ومتمسكين بالصيغة الوفاقية . ودون دخول في اعتبارات هؤلاء وتخوفات أولائك ، وكلها مفهومة ولها ما يبررها فإننا نرى أن هذا المؤتمر مهما كانت التسمية التي ستطلق عليه ، هو بالتعريف مؤتمر تأسيسي ولا يمكن أن يكون بالمرة انتخابيا بصفة مطلقة خاصة في غياب القواعد الموضوعية للعبة الديمقراطية الناتج عن طبيعة المرحلة التأسيسية إضافة إلى بعض الانحرافات والتموقعات الفردية والفئوية المعروفة ، لذلك من المنطقي ، وللمحافظة على ميزة التنوع والتمثيلية النوعية لمختلف مكونات القاعدة الحزبية ، ينبغي أن نزاوج في هذا المؤتمر بين الانتخاب والوفاق بنسبة ثلثين وثلث ، على أن يكون الاهتمام موجها أساسا إلى المحتوى الفكري والسياسي.
المصدر: جريدة التونسية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)– عضو المكتب التنفيذي للحركة