تحاليلتونس

تونس: قبل ان تتحول الى قنابل موقوتة.. إنقاذ الاحياء المهمشة أولوية في الحرب على الإرهاب..

آسيا العتروس: 

 

“في جنازتي العسكرية

أوقدوا الشموع في احتفالات ملكية

دثروني بالورود.. بالأغصان الندية

احملوني بهدوء.. بأياد عربية

غطوا نعشي بالزهور.. بأعلام وطنية

ودعوني في شموخ في أراض تونسية

ادفنوني بين أهلي.. بين نجم وثريا

سوف أبقى أناجيكم.. في أحلامي الأزلية

فاذكروني كل يوم.. حين كنت بندقية

اذكروا أني وهبتكم عمري في معارك ملحمية”..

اليوم نستسمح شهيد الوطن محمد إسلام الزواري لنقتبس وصيته ونستعيد تلك الكلمات التي دوّنها قبل أيام على استشهاده أول أمس٬ والتي تناقلتها مختلف المواقع الالكترونية٬ بعد تلك العملية الارهابية الجبانة التي استهدفته الى جانب ثلاثة من رفاقه عندما فجر انتحاري حزامه الناسف في تطاوين٬ وهي كلمات أبلغ وأشد من وقع السياط. وقد حملت في طياتها أكثر من رسالةلأكثر من طرف٬ لا عن حجم التضحيات التي تكبدها حتى الآن رجال المؤسسة الوطنية وحماة الوطن من أجل سيادة تونس فحسب٬ ولكن أيضا بشأن الخطر الارهابي الذي لا يكاد يغادرنا إلا ليعود متسللا في كل مرة عبر منافذ متعددة تكشف التحولات الجديدة في استراتيجيات الارهابيين بعد كل مرحلة ومحاولاتهم التكييف الاوضاع الجديدة مع تجفيف منابعهم واستمرار تضييق الخناق من حولهم وتعدد الخسائر والصفعات التي ما انفكوا يتلقونها.

مؤلم فعلا أن تونس التي تستفيق مجددا على مخاطر الارهاب في محيط اقليمي ودولي يسوده التعقيد والغموض وتحكمه لعبة المصالح القذرة بالنظر الى تداعيات وانعكاسات المشهد في الجوار الليبي٬ حتى لا نذهب الى أبعد من ذلك٬ أن تظل النخبة السياسية الحاكمة أسيرة عدوى ثقافة الغنيمة وصراع المواقع الذي أصابها منذ الانتخابات الأولى في 2011 وتظل أبعد ما تكون عن النضج المطلوب لمواجهة تحدياتالمرحلة وتأجيل خلافاتها الحزبية والانتباه الى ما يمكن أن تؤدي اليه هشاشة المشهد السياسي والحصاد الهزيل لحكومة أغرقتها الازمات المتتالية والديون وكبلتها الاحتجاجات وغياب رؤية استراتيجية للإصلاح واضحة وقابلة للتنفيذ…

قبل التحول الى قنابل موقوتة:

الواقع أن ما حدث خلال الساعات القليلة الماضية في بلادنا٬ من معتمدية الصمار بولاية تطاوين جنوبا٬ الى المنيهلة على مشارف العاصمة شمالا٬ يؤكد أننا أمام معركة أخرى في الحرب الطويلة على الارهاب وهي معركة يتعين فيها على التونسيين التمسك بتلك القناعة بأن الانتصار سيكون حليفا لتونس الشامخة دوما ولشعبها الأبي الرافض لمرتزقة العصر من تجار الدين ومافيا السلاح والأوطان٬ وهي قناعة تستند الى تلك الارادة المعلنة لمختلف رجالات المؤسسة الامنية في قطع دابر الإرهاب والارهابيين مهما كان الثمن وفي الارادة الشعبية بشكل خاص في رفض الارهابوالارهابيين.

ولعل في المشاهد التلقائية التي تسجل من بن قردان الى المنيهلة انطلاقا من نفس الاحياء الشعبية الفقيرة المهمشة التي يتجه اليها الارهابيون ليتحصنوا في بيوتها المهجورة وحضائرها وبين سكانها وأهاليها في انتظار لحظة الحسم والمرور الى تنفيذ جرائمهم٬ وما يقدمه الاهالي في كل مرة من دروس في الوطنية والتضحية والاقدام والشجاعة الى درجة التهور والمخاطرة بأنفسهم أحيانا استبسالا في رصد وملاحقة العناصر الإرهابية٬ ما يعيد الى السطح واقع تلك الاحياء التي يحق وصفها بالمنكوبة وهي عار على تونس الثورة وتونس القرن الواحد والعشرين التي ينخر الفساد جسدها. وهو واقع أليم ومأساوي حيث يعشش الفقر والبؤس وتنتشر المخدرات والبطالة وحيث تسجل أعلى نسب في الانقطاع المبكر عن التعليم وحيث تغيب كل وسائل وإمكانيات الترفيه والتثقيف والترفيه وحيث تولد النقمة وتعدم٬ وهنا مربط الفرس٬ الآمالوالاحلام وتهيئ الارضية المطلوبة التي يتغذى بفضلها الارهاب.

على أنه من المفارقات الصارخة التي لا يمكن اسقاطها في الحرب المستمرة على الارهاب أيضا أن نفس تلك الاحياء التي سجلت مواقف بطولية لأبنائها٬ يمكن أن تتحول الى قنابل موقوتة إذا استمر فيها التهميش وغياب مخططات التنمية وتبخر الوعود السياسية الانتخابية بمنحها وسكانها ما تستحق من إعادة بناء واستثمار في قدراتها البشرية وطاقاتها المنسية مند عقود. ولا يمكن إلا لمن يرفض رؤية الواقع واستباق الاخطر أن ينفي ذلك. ولنا في أحداث بن قردان التي أسقطت خطة الارهابيين لإعلان «إمارتهم الاسلامية» على جزء من أرض تونس٬ مثال على وفاء التونسيين لوطنهم ولمشروع الدولة المدنية الديموقراطية الذي يشتركون فيه٬ ومن هنا أهمية الاختبار الذي كسبه التونسيون في بن قردان وفشلت فيه دول وجيوش تتجاوز امكانياتها وقدراتها ما يتوفر للتونسيين. وهوما لا يجب أن ينسينا أيضا أن أغلب الذين اشتركوا في عملية بن قردان يحملون الهوية التونسية وهم من أبناء الجهة..

وبالعودة الى ما حصل أول أمس٬ فلعله من المهم التذكير فيما تونس تودع اليوم شهدائها الذين انضموا لمن سبقهم من قوافل الشهداء٬ أن الاحساس بالمرارة والغبن لمقتل أربعة من الامنيين الابرياء لا يمكن بأي حال من الاحوال أن يحجب ما تحقق للأمن الوطني ولأجهزة الاستخبارات من نجاح بعد تجاوز الكثير من اختراقات أو إخلالات أو ثغرات الماضي التي رافقت العمليات الارهابية في الشعانبي وباردو وسوسة ومحمد الخامس٬ من قنص ثمين للكشف عن المزيد من أسرار وخفايا تلك الشبكات الإرهابية٬ وهو ما ساعد على استباق الكثير من المخاطر وإجهاض العديد من السيناريوهات الارهابية وما كان يمكن أن تؤدي اليه لو أن أصحابها تمكنوا من تنفيذها.

اذ يكفي الانتباه الى ما تم الكشف عنه حتى الآن من ذخيرة وأسلحة وملابس عسكرية ومؤونة ونتساءل عن حجم ما في خفي وما يمكن لأصحاب العقول الظلامية الموبوءة بداء الارهاب ومعاداة الحياة٬ اقترافه. وقد لا يكون من المبالغة في شيء الاقرار بأن اقتراب شهر رمضان المعظم يعني لهؤلاء افتتاح موسم القتل واستباحة دماء الابرياء٬ وربما من المهم التساؤل عن وجهة الآلاف من تلك العناصر التي أعلنت وزارة الداخلية أنها منعتهم من السفر الى سوريا والعراق وليبيا وعما يدور في عقول العائدين من مناطق الصراعات ممن تبخروا في الطبيعة..

المشهد الإقليمي:

الحديث عن صحوة الخلايا النائمة وخروجها من مغاورها كالأفاعي تنشر سمومها لتتسلل الى المدن والاحياء الشعبية لا يمكن أن يكون بمعزل عن تطورات الاحداث في ليبيا في ظل تأرجح حكومة السراج٬ والتي شهدت بدورها خلال الساعات الماضية تسارعا في الاحداث مع محاولات تقدم تنظيم «داعش» وسيطرته على منطقة استراتيجية في غرب ليبياوهي منطقة أبوقرين بعد خروج من قاعدته في سرت وتمدد غرباً وما رافق هذا التقدم من استعدادات في ليبيا لتطويق هذا الخطر٬ وهو ما يعني أيضا توجهه لحماية عناصره ودفعها الى التوجه للبحث عن مواقع جديدة ومنها التسلل الى تونس.

وتكاد هذه الاستراتيجية ذاتها تكون الخيار المتبقي لهذا التنظيم بما في ذلك في العراق.. وقد لا تكون الصدفة وراء تزامن هذه التحركات والهجمات الدموية والفظاعات المرتكبة على أكثر من جبهة التي يتبعها التنظيم في محاولاته استهداف المدن وتركيز هجماته على قوات الامن التي يعتبرها من الطغاة واستهداف الاسواق الشعبية والاماكن الاكثر ازدحاما في اطار الجزء الآخر من الحرب وهي الحرب النفسية وزرع الرعب والخوف في النفوس… ما المطلوب اليوم لكسب الحرب على الارهاب؟ لا يمكن لتونس وهي تودع اليوم شهداءها إلا أن تعيد تحديد الأولويات٬ فكل قطرة دم تراق بسبب الارهاب٬ وكل روحبريئة تنتهك وكل بيت يحرم من عائله أو ابن أو شقيق أو سند مسؤولية سياسية وأخلاقية وإنسانية مشتركة تحتم على الجميع٬ كل من موقعه٬ الاستنفار لرصد كل الاسباب التي تم تجاهلها حتى الآن والتي كانت ولا تزال وراء تفاقم وانتشار الفكر الارهابي في الاحياء الشعبية أو الراقية كما في المساجد والمنابر وفي الجامعات والسجون التي توشك أن تتحول بدورها الى محاضن للإرهابيين٬ وتلك حكاية أخرى.

لا شك أن الارهاب الى زوال مهما طالت المعركة والمعركة طويلة ولكنها محسومة وتضاعف وتيرة الهجمات الارهابية ليس دليل قوة بل إشارة إلى بداية النهاية لسقوط وانهيار التنظيم٬ وفي ذلك احترام والتزام بوصية الشهيد الذي حّملنا الأمانة وهو يقول: “اذكروا أني وهبتكم عمري في معارك ملحمية”…

المصدر:جريدة  الصباح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق