
عبد الحميد الجلاصي (*):
1 – الديمقراطية مسار طويل، يتطلب اشتغالا على الثقافة، والتربية، والتقنين، والتوزيع الفعلي للسلطة.
الانسان ميال -بطبعه -الى التفرد، وكل صاحب سلطة ميال الى توسيعها وإدامتها.
وما انزل آدم من الجنة الا لنجاح ابليس في غوايته: «يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى».
الانسان بين إصبعين من إغراء الاستبداد ومحذور الاستعباد.
الجهد التربوي مطلوب، ولكن الانسان لا يكون ديمقراطيا إلا بتعاضد قابليته الذاتية، مع جهد تربوي لتأنيسه، مع الضوابط والإكراهات التي تمنعه من أن يكون مستبدا.
وما النظام الديمقراطي إلا هذا التكامل البديع بين الوجدان والسلطان، أي بين التثقيف والتقنين والتوازن في توزيع السلطة من خلال الاقتراب أكثر ما يمكن لتمثيل التنوع والمصالح المتعايشة وأحيانا المتصارعة.
2 – نعود مجددا للتذكير أننا في مرحلة بناء ديمقراطي، ولنسجل:
– إن بلادنا تتقدم في المسار المؤسساتي، ببطء أحيانا، بتعثر احيانا أخرى، ولكننا نتقدم.
– وأن الحرص على التوازن والتوزيع، يتغلب أحيانا على مقتضيات السلاسة والنجاعة. وهذا قد يثير مشاكل أثناء التنزيل، ولكننا سننجح في معالجتها.
– وأن الخطوات لا تزال متواضعة في مجال مراجعة القوانين، لجعلها متناسبة مع روح الثورة، ودستور الجمهورية الثانية.
– وإن الثقافة الديمقراطية بما هي، إقرار بالتنوع، تعايش معه، وحسن إدارة له، والاحترام للمخالف، وبما هي إقرار بنسبية الحقيقة، وبِما هي توازن بين الحرص على نيل الحقوق وأداء الواجبات، ومازال أمامها طريق طويل.
3 – يمكننا ان نتساءل عن عمق التكييفات التي حصلت في المنظومة الحزبية لتتلاءم مع وضع ما بعد الثورة، من اعتماد للشفافية في التسيير، وحرص على استحضار لمحورية مهام التأطير والتثقيف، وبذل جهد للاستماع والاقتراب من الشباب، والتمكين للمرأة.
– المنظومة الحزبية تتعرض إلى عملية ترذيل، بعضها ناتج عن سوء أدائها، وانشغالها بالمناكفات البينية، وبعضها ناتج عن تواضع منجزها مقارنة بوعودها، وبسقف الانتظارات والتطلعات.
– في الحياة الداخلية للأحزاب تودي حالة الاختناق، ونقص الشفافية، إلى «المؤامرات» واللجوء إلى الغرف المغلقة. أما الاعتراف بالاختلاف، والتفاعل معه، فلا ينتج إلا الخير.
– كلما أدخلنا العقلانية في السياسة، وميّزنا بين ضرورة المحافظة على علاقات شخصية راقية، وبين احتمال الاختلاف في تقدير المصالح، كلما كانت المناخات سليمة.
– لم نتشرب بعد بالقدر الكافي تلك القاعدة الذهبية «الاختلاف لا يفسد للود قضية». نكثر من ترديدها دون ان نتخلق بها.
– تجربة التاريخ تعلمنا أنه كلما تم تجاهل ما هو انساني وفطري، إلا وبحث عن مسالك ملتوية للتعبير عن ذاته، تودي إلى الأمراض والتعفن الحزبي.
– هناك ثقافة سياسية قديمة، لا تزال تفعل فعلها في المنتوج الإعلامي، وفي داخل الاحزاب، وبين الاحزاب، وما بينها وبين عامة المواطنين، قوامها تشويه التنافسية، بل والتشكيك في غاية العمل السياسي. أحيانا، نتذكر الخطاب الإعلامي للسبعينات. في بحثه على التلبيس، أو على الإثارة، أو على التعمية.
– نلاحظ تدخلا لفضاءات اخرى في العمل الحزبي، تعبر عنه حالة السياحة الحزبية والبرلمانية.
– للأحزاب التي تشكلت بعد الثورة منطقها وتحدياتها، وللأحزاب القديمة وخاصة المناضلة قبل الثورة، ومنها حركة النهضة، تحدياتها المضاعفة. التاريخ يمكن ان يكون ثروة ويمكن ان يتحول الى عبء في نفس الوقت.
أمام المواقع الجديدة، والمسؤوليات الجديدة، والمضامين الجديدة، التي تقتضيها التطورات الكبرى الحاصلة، ما هو المطلوب لمرافقة الموارد التي اثبتت جدارتها في مواجهة التحديات السابقة لتكون قادرة على مواجهة التحديات الجديدة؟ وما هي الموارد الجديدة الداعمة بل والشريكة؟
اننا هنا ننتقل من سؤال المضامين الى سؤال الأوعية، والموارد.
هذه المغامرة الممتعة تتطلب ذكاء، وحسن إدارة ومرافقة.
في رصيدنا تجارب مهمة، منها تجربة انتقال الحزب الديمقراطي التقدمي إلى الحزب الجمهوري. هذه التجارب ثروة وطنية مطلوب أن يستفيد منها الجميع.
«النهضة» في قلب هذه المغامرة، وأمل أن يكون إخواننا في «الجبهة الشعبية» في نفس الطريق. على الأقل من حيث الوعي بالمسألة، والعزم على معالجتها.
4 – يمكننا أيضا أن نتساءل عن عمق التطوير الذي حصل في المنظومة الجمعياتية من حيث طرق الإفراز، وشفافية التسيير، ووضوح موارد التمويل، والالتزام بمجال العمل المحدد في رخصة الإنشاء، ووضوح العلاقة مع العمل الحزبي، حتى لا تتحول المنظمات والجمعيات إلى أحزاب «متنكرة».
مسار التطوير للحياة السياسية يجب ان يطال هذه الفضاءات، وكذلك مسار تطوير الحالة الحزبية
أجل يجب ان نترفق في التطوير، ولكن ايضا ان نكون حريصين عليه، صارمين وعادلين في تطبيق القوانين.
5 – النقاش في حركة «النهضة» حول حياتها الداخلية، يجب أن يندرج ضمن الحاجة الداخلية، ولكن أيضا ضمن هذا الأفق الوطني، لتطوير الحياة الحزبية.
ليس من السهل تصفية اثار أربعين سنة من العمل السري، ومن المتابعة والاضطهاد، ومن التوجس تجاه المحيط.
«النهضة» تبذل مجهودات، ولكن عليها ان تسرع الخطى.
«النهضة»، وهي تعد لمؤتمرها، يحب أن تساهم في تحسين الحياة الحزبية، منهجيا ومضمونيا.
– منهجيا يجب ان تتعود الاحزاب عدم الخوف من خلافاتها، يجب أن تقرها، وأن توجد المناخ الاخلاقي والأليات الترتيبية لإدارتها، بغاية عقلنة التعدد. كما يجب أن تتعود الاحزاب على الانفتاح على الرأي العام حتى يتعرف عليها جَهْرًا، دون أن يضطر لاستراق السمع أو اختلاس النظر.
في السياسة لسنا في عالم الرياضيات الذي يفترض حلا واحدا للمشكلة الواحدة، نحن في عالم الفيزياء، الذي يعني إمكانية ابداع مسالك متنوعة للوصول لنفس الهدف. احيانا يمكن التأليف بين المسالك المتنوعة، وأحيانا أخرى، حينما يصبح التأليف توليفا معيقا، تكمن النجاعة في فسح المجال لخيار غير مخلوط.
كل ذلك يرسي ثقافة جديدة، ويدفعنا، كتونسيين، بخطى حثيثة نحو الحداثة السياسية، ويرسخ قيم التسامح داخل الكيانات الحزبية ذاتها، ويرسل رسالة طمأنة إلى الرأي العام حول رصانة وعقلانية الطبقة السياسية.
– مضمونيا:
يجب أن تطرح كل القضايا المتعلقة بالعضوية، والتثقيف، والتأطير، والإدارة، وسلسلة اتخاذ القرار، ومنظومة السلطة، يجب أن يطرح كل ذلك مع استحضار:
• حالة النفور من الحياة الحزبية في العالم، وفي تونس.
• التهديدات التي تترصد الحياة الحزبية بتدخل عوامل مشوشة فيها.
• الحاجة الى تجديد النخبة السياسية بالبلاد.
• الحاجة الى توفير أطر جاذبة تغري الشباب بالعمل السياسي.
• دستور البلاد، السقف الأعلى، والمحفز الأساسي للديمقراطية في البلاد وكل فضاءاتها، وخاصة تأكيده على إرساء أكبر ثورة في باب توزيع السلطة، أي التوزيع بين المركز والجهات.
• رسائل الانتخابات الاخيرة ومن أهمها استمرار تخوف نسبة كبيرة من نساء تونس من «النهضة».
• ضرورة تطوير الادارة الحزبية وتخفيفها، واعتماد الأساليب العصرية في تنضيج واتخاذ القرار.
• ضرورة تطوير الموارد البشرية، تنمية للمهارات، وتجديدًا للأرصدة، وفتحا للأفاق، مع إحسان التوظيف.
• كل ذلك تحت سقف مراعاة حالة الهشاشة الحزبية في البلاد.
• هذا هو مجال وأفق النقاش النهضوي، لعله يساهم في تطوير «النهضة»، وفي إيجاد نوع من التنافسية مع شركائها، بما يعين على تطوير الحياة الحزبية.
************
وأخيرا:
هذه تأملات كانت عينها الاولى تركز على حركة«النهضة» وفلسفة مؤتمرها، في حين ان عينها الثانية كانت تركز على عموم الحياة الحزبية والسياسية في البلاد، لأننا لن ننهض ان لم نجدد مجمل فضائنا العمومي.
ولذلك لم نتردد في النصح الصادق في مواطنه، وللنقد الصارم في مواطنه، والاختلاف لا يجب ان يفسد للودّ قضية.
ربما هذا كلام جميل . ولكن يجب ان نفلح حديقتنا (فولتير).
Cela est bien dit, répondit candide, mais il faut cultiver notre jardin.
(Voltaire)
ليفلح كل منا حديقته إذن!
وحينما نعمل قد يكون التواضع والصمت أفضل صديقين.
المصدر: التونسية، الثلاثاء 29 مارس 2016
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) –نائب رئيس «النهضة» ومسؤول التفكير الاستراتيجي والتّخطيط