تونسدراسات

على ضوء أحكام دستور 2014 (الجزء الأول):سلطة مجلس نواب الشعب في تنظيم المحاكم العسكرية

 

العربي الشابي *: 

      تُثار العديد من الإشكاليات حول منظومة القضاء العسكري والمحاكم العسكرية في بلادنا كنظام قانوني وسياسي مؤسسي مرتبط بمسألة تاريخية سَيما وأنّ الدستور الجديد حاول مجازفا التصدّي لأخطر وأشدّ المسائل صُعوبة في القانون على أنغام سيمفونية العصر»حقوق الإنسان»، ليُجيب عن أسئلة وجدت ما قبل محاكمة الجنرال اليوناني «فيلوتاس» الذي أعدم بتهمة تآمره على الإسكندر الأكبر سنة 330 قبل الميلاد.
وهي بالعبارة الشيشرونية الشهيرة «هل تصمت القوانين وسط الأسلحة؟» وبصيغة العبارة الرومانية ‹› هل يجلس للحكم من يعطي الأوامر؟ ‹› وبمقولة جورج كليمنصو»هل القضاء العسكري يمثل بالنسبة للعدالة ما تمثله الموسيقى العسكريّة بالنسبة للموسيقى؟»، وبمأثورة مونتسكيو»هل هناك من الظروف ما يوجب إسدال ستار على الحرّية كما تحجب تماثيل الآلهة؟» وبعبارة وزير الحربية الفرنسي مسمير››Messmer» هل أن تنظيم المحاكم العسكريّة يبرّره نظام خاص بالجيش يستند على الطاعة؟ فبدونها لا يستطيع الجيش أن يقوم بوظيفته، بل لا يكون هناك جيش على الإطلاق؟».
وهي بصرامة المنهجية القانونية إجابات عن أسئلة:
ـ ماهي الطبيعة القانونية للمحاكم العسكريّة؟.
ـ ماهية شرعيّة وُجود المحاكم العسكريّة من عدمها في النّظم القانونيّة الديمقراطيّة؟.
ـ ماهي تحدّيات المحاكم العسكريّة التونسيّة، وما هوالاتجاه الدستوري في خُصوصها؟
ـ ماهية نطاق الولاية القضائية الجزائية للمحاكم العسكريّة؟.
ـ من هم قضاة المحاكم العسكريّة ما بعد دستور 2014 ؟ وما هي ضماناتهم؟.
لتختزل كلها الإجابة عن معادلة سلامة الشعب فوق القانون أم العكس صحيح. بمعنى هل أن مصلحة الشعب التونسي في تنظيم الوضع القانوني لقضاة المحاكم العسكرية في قانون المجلس الأعلى للقضاء؟
أم نسأل فلا نجيب ونتجاهل وإذا سئلنا نتذكر بأن تناسينا النقطة آخر السطر.
ودون أن ننسى فقد صنَف دستور الجمهورية الثانية روافد السلطة القضائية إلى محكمة دستورية ومحاكم عسكرية وقضاء عدلي وقضاء إداري وقضاء مالي.
وأحدث أربعة مؤسسات قضائية دستورية عليا هي المجلس الأعلى للقضاء ومجلس القضاء العدلي ومجلس القضاء الإداري ومجلس القضاء المالي.
وقسَم القضاة إلى خمسة أصناف قضاة محاكم عسكرية وليس قضاة عسكريين وقضاة عدليين وقضاة إداريين وقضاة محكمة المحاسبات وليس قضاة ماليين وأعضاء المحكمة الدستورية وليس قضاة المحكمة الدستورية.
وبالتالي فإن شرعية ومشروعية المحاكم العسكرية في الجمهورية التونسية شرعية ومشروعية قانونية بل هي شرعية قانونية دستورية.
ولزاما فإن قضاة المحاكم العسكرية جزء لا يتجزأ من القضاة الذين هم بدورهم جزء لا يتجزأ من القضاء والمحاكم العسكرية مكون محوري وجوهري في مكونات السلطة القضائية، وإن كان دورها زمن السلم لا يدركه إلا النَابهين والمستشرفين لمستقبل الحقوق والحريات في البلاد في حين تقصر أذهان غيرهم على ذلك.
فالأصل في سلطة المشرع العادي بصدد تنظيم موضوع معين أن تكون سلطة مطلقة، إلا أن هذا لا يعني إطلاقها في سن القوانين دون التقيد بالحدود والضوابط التي نص الدستور عليها استثناءا.
وهي قيود قد تكون محدودة بحيث توشك معها هذه السلطة أن تختفي تدريجيا لتحل محلها سلطة مقيدة، أوتكون بالغة التقييد ولكن دون أن تنعدم معها سلطة المشرع التقديرية، ذلك أن المشرع لا يزال له قدر من حرية التقدير في المفاضلة بين البدائل المختلفة، لاختيار أنسبها وفقا للغرض الذي يتوخاه من التنظيم التشريعي.
وقد يرد هذا التقييد صلب النص الدستوري المتعلق بالموضوع محل التنظيم، كما قد يرد في فصول دستورية أخرى بحسبانها جميعا كلا لا يتجزأ في إطار وحدة عضوية متكاملة.
ونلاحظ في هذا الإطار أن أحكام الدستور تؤول وتفسر بعضها بعض كوحدة منسجمة مع اعتبار توطئة الدستور جزء لا يتجزأ من الدستور .
وإن تجاوز أوتجاهل مجلس نواب الشعب لتلك الحدود تحت ستار تنظيم هذا الموضوع يعد عدوانا على استقلال القضاء وضدَ إرساء سلطة قضائية مستنيرة وانتهاكا للدستور خاصة فيما يتعلق بحقوق وحريات المواطن الإنسان وسيادة القانون ومبدأ الفصل بين السلطات.
وتأكيدا لهذا النظر ورد نص الفقرة الثانية من الفصل 110 من الدستور مقررا أن « المحاكم العسكرية محاكم متخصصة في الجرائم العسكرية ويضبط القانون اختصاصها وتركيبتها وتنظيمها والإجراءات المتبعة أمامها والنظام الأساسي لقضاتها» ونستقي من النص المتقدم أربعة حقائق أساسية:
الحقيقة الأولى:
اليقين يدحض الشك حول دستورية وجود المحاكم العسكرية وشرعية وجودها في قانوننا الوطني، فقد نص الدستور عليها وأحال إلى المشرع العادي مجلس نواب الشعب تنظيمها وبيان اختصاصها، ومن ثم لا يتصور أن يكون هذا النص محل نظر بالنسبة لوجود المحاكم العسكرية وضرورتها.
ذلك أن المحاكم العسكرية لها ذاتيتها الخاصة تبرر تميزها عن سائر الجهات القضائية الأخرى، سواء من حيث التنظيم أوالاختصاص أوالولاية القضائية، فإجراءات المحاكمة أمامها تتسم بطابع خاص مميز يتفق مع السرعة والعدالة للحفاظ على النظام العام العسكري للدفاع الوطني المنصوص عليه في التشاريع القانونية والترتيبية العسكرية . كما أن اختصاصها يتحدد وفقا لضوابط منطقية تتجاوز نطاق القوات المسلحة بالنسبة للصفة العسكرية وطبيعة الدعاوي والنزاعات الجزائية العسكرية وهي وثيقة الصلة بنظام الخدمة والصالح العام للقوات المسلحة التونسية، فضلا عن أنه قضاء محدد الولاية القضائية بالنسبة للولاية القضائية الجزائية الكاملة للقضاء العدلي.
الحقيقة الثانية:
إن الدستور وإن أناط مجلس نواب الشعب وحده بسلطة تنظيم وتحديد اختصاص المحاكم العسكرية، إلا أنه يبدوأنه قد استشعر الخطر الكامن من إطلاق يد المشرع في أن يجور على اختصاصها فيلغيها، أوينقص من حقوق وحريات المواطنين الدستورية العسكريين والمدنيين، تحت ستار هذا التنظيم، فعمد إلى تقييد سلطة المشرع إزاء تنظيم المحاكم العسكرية في صلب نص الدستور ذاته بما يحول دون إطلاقها، وذلك من خلال قيدين أساسيين:
الحقيقة الأولى: أن يكون تنظيم المحاكم العسكرية وتحديد اختصاصها وتركيبتها والإجراءات المتبعة أمامها بقانون دون أداة تشريعية أدنى، وقد ورد هذا القيد الدستوري صراحة في النص المشار إليه.
ويدل ذلك على أن تنظيم هذه المحاكم يعد من الأمور التي إحتجزها الدستور بنص صريح ليكون التشريع فيها بقانون، فلا يجوز تنظيمها بأداة تشريعية أدنى من القانون، وإلا كانت مخالفة للدستور.
والنتيجة المترتبة على ذلك عدم جواز تفويض المشرع إلى سلطة أخرى تنظيم المحاكم العسكرية أوتحديد اختصاصها، باعتباره من الأمور الداخلة في المجال المخصَص للمشرع العادي والخارجة عن نطاق التفويض.
إذ لوأراد المشرع الدستوري أن يجيز التفويض في إجراء هذا التنظيم أوتحديد ذلك الاختصاص، لجرى نص الفصل 110 من الدستور على أن يكون تنظيم المحاكم العسكرية وتحديد اختصاصها بناء على قرار أوأمر.
ويترتب على هذا القيد عدم دستورية أي نص قانوني يقرر إنشاء اختصاص جديد للمحاكم العسكرية بمقتضى أداة تشريعية أدنى من القانون.
الحقيقة الثانية: يتمثل في كافة الشروط والقيود والضوابط التي تفرضها النصوص الدستورية الأخرى وذلك بمقتضى الإحالة الواردة في نص الفصل 110 من الدستور، باعتبارها نصوصا متكاملة في إطار وحدة عضوية واحدة لا تتنافر ولا تتهادم أجزاؤها.
وهي تشمل طبقا للمدلولين اللغوي والقانوني لنص الفصل 110 المشار إليه ووفقا لما سبق بيانه، كافة المبادئ الواردة في الدستور والتي ترسم للمشرع سلطة محددة سواء ما تعلق منها بالحقوق والحريات العامة كالمساواة، الحرية الشخصية، وحرمة المسكن وحرمة الحياة الخاصة للمواطنين، وكفالة حق التقاضي، وحق الدفاع وغيرها. أوتلك التي تتعلق بالمبادئ وثيقة الصلة بالتنظيم القضائي كاستقلال القضاء والقضاة وعدم قابليتهم للعزل، وتنظيم واختصاص الهيئات القضائية. وذلك أيا كانت درجة هذه القيود سواء كانت عادية «محدودة» أوبالغة التقييد، ويعد الخروج على تلك القيود والضوابط أوتجاوزها انتهاكا مخالفا للدستور التونسي.
يتبع….

المصدر : الشروق – 6 جوان 2016 ص 24

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*- قاض وباحث أكاديمي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق