تونسدراسات

في التغيير الجامعي المنشود في علاقته بالتغير الاجتماعي الجاري

Afficher l'image d'origine

منير السعيداني:

 

        من آثار ما حدث في تونس بعد 17 ديسمبر 2010 تغييرٌ في مواقع العديد من الفاعلين الاجتماعيين وفي أدوار العديد من المؤسسات الاجتماعية. كان التغيير السياسي والاجتماعي والفكري ولا يزال عميقا وشاملا وحادا وسريعا. ويخطئ من يعتقد أن الحال ستركن إلى الهدوء قريبا. نحن لا نزال نعيش أطوار مخاض عنيف واضطراب كبير. مواقع الفاعلين السياسيين تتغير لا فقط على وقع نتائج الانتخابات المتكرّرة ومتقلبة النتائج ولكن على وقع انشقاقات الأحزاب وانقسامات بين كتل فئوية متشظية داخل الأحزاب، وبروز متواتر لتشكلات سياسية غير تقليدية شبابية ومنشقة على الغالب. ليس هذا مقصورا على حزب دون آخر بل هو عام وشامل للأحزاب الحاكمة ولتلك التي تحتل مواقع المعارضة، متقلبة الأوضاع هي أيضا وللتشكلات السياسية غير التقليدية. مواقع الفاعلين الجمعياتيين تتغير هي أيضا بين منظمات حكومية وغير حكومية وذات ارتباطات حزبية سياسية وإيديولوجية داخلية وخارجية موزّعة بين البلدان والقارات من الخليج العربي حتى الولايات المتحدة الأمريكية مرورا بتركيا ومختلف البلدان الأوروبية ذات التأثير الوازن. وقد زادت جائزة نوبل التي أسندت مؤخرا إلى الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان من “حساسية” موقع مثل هذه المنظمات “الوازنة” ضمن الخريطة الاجتماعية-السياسية التونسية من جهة ومن قنوات اتصالها أو شبكات ارتباطها بالقوى الخارجية ذات المصلحة في تونس، سواء أكانت تلك القوى عبارة عن حكومات أم مؤسسات مالية واستثمارية أم واضعة للسياسات الاستراتيجية، على المستويات الدولية والقارية والإقليمية.

يراجع هذا التغير ما يكاد يشمل كل ما استتب عليه أمر الدولة ما بعد الاستعمارية، وليدة اتفاقية 1956 التونسية- الفرنسية وترتيباتها، في تونس منذ ستين سنة حيث لا يمس الفاعلين ومنازلهم ومواقعهم وأدوارهم فحسب بل وكذلك المؤسسات، من جميع الأنواع والأحجام. ولدى كل تغيير اجتماعي بمثل العمق والحدّة والسرعة والشمول الذي كان في ما شهدته تونس خلال السنوات الخمس الماضية يكون المثقف إزاء تغيّر في مواقعه وأدواره ومنازله الاجتماعية الممكنة. إنّ أنماط المثقفين التي كانت تمثلها بعض أطياف المدرّسين الجامعيين صار بفعل التغيير الذي كنا بصدده مدعوا إلى التنحي إزاء ترجرج ما كان يقف عليه من أرضيات وَضُح أنّها لم تعد صلبة بالقدر الذي كانت عليه. فالجامعي- المثقف الموالي للحزب- السلطة- الدّولة (كان ينعت ب”المنسجم”) يجد نفسه اليوم أمام انقسامات الحُكم الإيديولوجية والسياسية والحزبية والمصلحية وحتى القبلية- العشائرية أو الجهوية. ولذلك لم يعد بمقدوره، إزاء التفجّر الداخلي لمؤسّسات الحكم، أن يضطلع بنفس الدور الذي كان يضطلع به قبل ثورة 17-12- 2010 المتصلة حتى 14-01-2011 وما بعده. الجامعي- المثقف الإسلامي الموالي الآن للنهضة الحاكمة يبدو، ظاهريا، أهنأ بالاً إزاء مسألة “الانقسامات والانشقاقات” ولكنه في الحقيقة، وحتى يحوز ذلك الهناء، يضحّي بما يمكن أن يكون “فكرا حرا”ليشهد، عاجزا أو منبهرا، محبطا أو مستفيدا، فعل الآلة الحزبية الطاحنة وهي تُلزمه بالاصطفاف وراء مواقف حزبية تكتيكية فيها من المناورة السياسية أكثر مما فيها من الاستناد إلى زاوية نظر مخصوصة مبتكرة.ومما يزيد الأمر عسرا بالنسبة إلى الجامعي- المثقف الإسلامي الموالي للنهضة الحاكمة أنّ سلوكها السياسي بالغ الحذر ومتربص بأول فرصة لقلب الموازين عن طريق ما أصبح يعرف ب”اللعبة الديمقراطية” من دون تأكيد على أي مبدأ كان، على الرغم مما يبدو من “موافقات الشيخ”. ولم يكن لبعض الجامعيين- المثقفين ممن التفوا حول المنصف المرزوقي بعد أن خسر انتخابات 2014 في تجربة “حراك شعب المواطنين” إلا أن يقفوا على انقسامات مريرة أسابيع قليلة بعد أن خاضوا أوّل المناقشات الحماسية حول “زواج ممكن بين فكر حر انشقاقي وإرادة تغيير سياسي نزيه”كما قيل. حتى الجامعي-المثقف القديم الآخر الذي كان قبل الثورة “مُعارضا للنظام” من موقع ديمقراطي أو حقوقي أو يساري… يجد نفسه إزاء انقسامات شبيهة بما هو موجود في الحكم الحالي، مهما كان موقعه في شتى المعارضات متزايدة التشظي السياسي والفكري. ومن نفض منهم يديه أو يكاد من “الفعل السياسي” المباشر، لا يكاد يقف على قرار بين الانخراط في أو التعاون مع مراكز و/ أو مؤسسات بحثية محلية وعربية ومن بلدان أوروبية والقبول أو طلب مساعدات مؤسسات مانحة أو ممولة تابعة للأمم المتحدة و/أو أوروبية و/ أو خليجية من جهة، وبين إطلاق مبادرات في التعامل مع الشأن العام ينتهي الوازن منها، طوعا أو استيعابا، إلى أيادي السلطان مثلما كان عليه الأمر في ” المؤتمر الوطني للمثقفين التونسيين ضد الإرهاب” (12 أوت 2014). وقد لا يستثني هذا المشهد إلا ما كان من المشاريع ذا طبيعة فكرية من قبيل المجلات الحائمة حول صيغة “مجلة ثقافية” (“الفكر الجديد”) أو صيغة “مجلة فكرية” يضاف إليهما، أو لا يضاف، نعت “مستقلة” (“أفق”).

لا يتعلق بعض الأمر هاهنا بطبيعة المؤسسات السياسية المذكورة بوصفها مؤسسات للحكم أو للفعل السياسي مهما كان موقعه من الحكم فحسب بل بالتعارض الكامن بين طبيعة المواقع والأدوار والمنازل التي يمكن أن تسند للمثقف، أي مثقف، ضمن هذه المؤسّسات وبين ما هو أقرب إلى طبيعة مهمّة المثقف الاجتماعية من ابتكار وتجديد وإعادة بناء متراكم الجهد ومتتابع الحلقات. في مثل هذه الأوضاع التي تعيشها تونس راهنا يكون الطلب الاجتماعي على الأفكار المجددة البانية والموجهة نحو المستقبل غامضا وملتويا وغير نقي لأنه يقع بين استراتيجيتين متنافرتين هما حاجة الأحزاب والجمعيات والمنظمات والمؤسسات المُكوّنة للنظام السياسي إلى أقصى درجات السرعة السطحية في الاستتباب والسيطرة على التعارضات والتشققات التاريخية- الاجتماعية متجددة البروز من جهة، وحاجة المجتمع العميق إلى أقصى درجات الرصانة الوئيدة في مراجعة المناويل الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة. يتوزع الطلب الاجتماعي على المثقف في سياق التحولات الشبيهة بالتي تعيشها تونس بين هذين الاستراتيجيتين بحيث يكون إيجاد مدى للمواءمة بين مواقع وأدوار ومنازل تستجيب لكليهما في آنٍ معًا مستحيلا.

بقدر محدود، أفلتت الجامعة التونسية بعد الثورة من قبضة التحكم الدكتاتوري في تسييرها وإدارتها وتنظيمها من جهة وفي إنتاج المعرفة فيها والتعريف بها واستغلالها من جهة أخرى. تعيش هي أيضا وقع هذا التغير التي كنا بصدد بعض وجوهه. آليات التسيير الجديدة التي تعتمد على الغالب على انتخاب المسؤولين الأول عن المؤسسات الآكاديمية والبحثية من كليات ومعاهد عليا وصولا إلى الجامعات وهياكل البحث (التي تُتبوأ فيها المسؤوليات الأولى عن طريق “اختيار داخلي” يميل إلى التوافق التفاوضي وإن كان عسيرا أحيانا)أثبتت أن بالإمكان الاستجابة إلى الطلب الاجتماعي على الجامعي- المثقف بطريقة فيها شوط لا يستهان به من الاستقلالية عن السلطتين السياسية والإدارية. كان ذلك في مثال تكوين رؤساء الجامعات لندوة مستقلة عن السلطة السياسية وعن السلطة الإدارية للوزارة، ندوة منتظمة الاجتماع تقريبا تلقائية التعهد بإصدار مواقف من الشأن العام وحرة التدخل إلى مدى معيّن في الفضاء العمومي حيث نصص بيانها الصادر بتاريخ 31-01-2015 على تفعيل مقترح إداث “ندوة رؤساء الجامعات” باعتبارها “هيئة مستقلة تمثل هيكلا للتفكير في وضع منظومتنا الجامعية واستنباط الحلول المناسبة لمشاكلها والعمل على تنفيذها من أجل إصلاح هذه المنظومة وتطويرها” (أمضى البيان رؤساء جامعات جندوبة، المنستير، سوسة، قفصة، قرطاج، تونس المنار، القيروان، منوبة، تونس، الجامعة الافتراضية). ولكن وعلى الرغم من كل هذا الجديد في موقع الجامعيين وصلتهم بالشأن العام فإن البنية الكولونيالية للمعرفة هي الإشكال الذي لم يتمّ حتى البدء في تصور كيفية مراجعته بل إمكانيتها.

مفهوم “المعرفة” الذي اعتمده المكتب الإقليميّ للدّول العربيّة / برنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ، ومؤسّسة محمّد بن راشد آل مكتوم في تقرير المعرفة العربيّ الأوّل للعام 2009 “نحو تواصل معرفيّ منتج”، وتقرير المعرفة العربي للعام 2014 “الشّباب وتوطين المعرفة”)  مثلا يدل على أنها تتكوّن من البيانات والمعلومات والباراديغمات والأفكار، أو ما اعتبره التقريران ‘البنى الرمزية’ التي يحملها الإنسان أو يمتلكها المجتمع أو يقيمها، في سياق تاريخي محدّد، بحيث تُوجّه سلوك الناس، فرديا ومؤسّسيا، في كافّة مجالات النشاط الإنسانيّ، في إنتاج السّلع والخدمات، وفي نشاط المجتمع المدني والسّياسة وفي الحياة الخاصّة.

وحينئذ ليست بنية المعرفة نتيجة تصوّر إداريّ سياسيّ في كيفيّة تنظيمها بقدر ما هي نتيجةٌ أكثر مباشرة لتصوّر علاقتها بالمجتمع الذي ينتجها من جهةٍ وبما يَرُوج من معارف في محيط ذلك المجتمع الجغرافيّ والحضاريّ والثقافيّ والفكريّ المباشر وغير المباشر ثمّ لعلاقتها (المعرفة) بالوجهة التي يتمّ فيها استخدامها في السّياسات العموميّة المنظِّمة للعيش المشترك بين أفراد المجتمع ومجموعاته. فالنظم التصوّرية للمعرفة والمِخْيَال البانِي لعلاقة الجامعة بمجتمعها في تونس موروث عن بنية لم تكن، والحقّ يقال، بمثل هذا الاكتمال والوضوح زمن الاستعمار الفرنسي المباشر. ولكن ما تمّ بناؤه خلال حكم الدولة ما بعد الاستعمارية من أنظمة معرفية بالمعني المادّي للكلمة (البنية الماديّة والتّنظيميّة والتّسييريّة والمُتَصَرِّفة في إنتاج المعرفة والمُتدبِّرة لكيفيات ترويجها وتوزيعها واستعمالها) وبالمعنى المعرفيّ- العلميّ- الإبستيمولوجيّ للكلمة (المخيال الباني للمبادئ التي تقوم عليها المعرفة والنّاظم لعلاقتها بالنّظام الثقافي الوطني) يتّسم بِكَوْنه واقعًا تحت أثر التّقسيم العالميّ لسوق المعرفة. يتبين ذلك الأثر في الهيمنة العددية للجامعات التّعليمية الناقلة للمعرفة الجاهزة في مكوّنات المنظومة الجامعية التونسية على حساب الجامعات البحثية المُحدثة للمعرفة المتجددة كما يدلّ عليه دليل مخابر البحث ووحداته الصادر في نشرته الأولى سنة 2015 في صيغة أوّلية عن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والذي لا يحصي (الملحق 6، صص 89-90) إلا 38 مركز بحث أنشئت في ما بين 1893 و2013. كما يتبين ذات الأثر في “ميزان قوى” لغات التدريس والأفكار والإنتاج وبراءات الاكتشاف أو الاختراع والتنظير والمفاهيم والتصوّرات. ويكفي أن نعود إلى المنطق السّاري في مختلف التّصنيفات الإقليميّة والقارّية والدوليّة أو العالميّة للجامعات حتّى نرى أنّ ما هو متوفّر من البضائع والخيرات في السّوق الكونيّة للمعرفة مُصَنّع ومصنوع في مراكز إنتاجها الكبرى في ما وراء بحارنا وأن المكافآت المادّية والمعنويّة والرّمزية المسندة لما ينتج هنا، ليست إلا فتاتا ممّا يمكن أن يدره إنتاجه لو كان تمّ هناك. ولسنا، نحن التونسيين أو المغاربيين أو العرب مثلا، بوحيدين في مثل هذه الحالة الكونيّة وإن كانت استراتيجيّات نقضها في جنوب القارّة الأمريكية أو الإقليم الهند – صيني من القارّة الآسيويّة أو جنوب القارّة الأفريقية مثلا أكثر تقدما ممّا نحن عليه من الجرأة على تصوّرها وتنفيذها. قد يكون الموقع من سوق المعرفة الكونيّ نوعا من الموروث غير القابل للنّقض بيُسر، ولكنّ الموقع ثم الموقف من إخضاع المعرفة إلى منطق السّوق من جهة وإلى منطق التّسيير المتصرّف من جهة ثانية وإلى منطق التقسيم العالمي لمناطق نفوذ المعارف والثقافات واللغات من جهة أخرى يجعلنا نميّز بين أقاليم ومناطق وأوطان وبلدان تشهد استحكاما لاستعماريّة المعرفة وإعادة إنتاج لها وأخرى تشهد تَصَاعُدَ لااستعمارية المعرفة، سواء أكانت هذه اللااستعمارية واقعا قائما أم استراتيجية متوخاة أم توقا مستقبليا.

من دون النظر إلى هذا لا يمكن أن نفكّر في نقض حالة الطلاق المزدوج بين الجامعة والمجتمع في تونس. لقد كان من نتيجة إرساء نظام معرفي واقع تحت أثر استعمارية المعرفة منذ بدايات الدولة ما بعد الاستعمارية في تونس، ذلك النظام الذي ينبني في كلّيته وجزئياته على موروث استعماري مركزي أوروبي نافذ في لسان التدريس ومحتوياته وتصوّراته وفلسفاته وموقفه من التاريخ الوطني وذاكرته ومجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أن استتب لعقود تجاهلٌ متبادل بين الجامعة والمجتمع: جامعة أجبرها النظام السياسي الذي أنشأها وكذا النظام المعرفيّ الذي تبنّته على تطليق مجتمع أدار لها ظهره ولم يعد أفراده المنضوون فيها، مع عائلاتهم وجماعاتهم الاجتماعية القريبة، يطلبون منها إلا شهادات جامعية بأبخس ما أمكن من الجهد ولم تعد مؤسساته الاقتصادية والاجتماعية وغيرها تطلب منها إلا أنصاف مؤهلين للاضطلاع بمهام التنفيذ. في مثل هذه المؤسّسات الجامعية، يبدو الجامعيون أقرب إلى أن يكونوا من تقنيي المعرفة ومروّجي نسخها الدراسية أو مردّدي ملخّصاتها المفقّرة بحيث يكونون غير مرشّحين إلى أن يكوّنوا نمطا جديدا فريدا من الجامعي- المثقف. وبالفعل ليس يتم تخليق هذا النمط إلا بإيجاد حلقات ربط تمكّن من وصل العروة، وبأوثق ما أمكن، بين الجامعة والمجتمع وذلك بأن يعاد وضع مختلف مكوناتها الطلابية والبحثية والآكاديمية والتنظيمية في سياق ما يستجيب لحاجة المجتمع العميق إلى أعلى تفاعلات التداول الاستراتيجي في مراجعة المناويل الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة.

لقد شهدت الحركات الاجتماعية المستجدة خلال السنوات الخمس الأخيرة في تونس وفي محيطها الإقليمي القومي والثقافي المباشر تجارب انتظام “للمواطنين” وللمهمّشين والمقصيين منهم على وجه الخصوص في أشكال تضامنية خارجة عن الأشكال الدولوية المتعارف عليها وعن النظم البيروقراطية المعروفة حيث عملوا على بناء علاقات تبادلية وتفاوضية خارجين ما أمكن لهم ذلك عن البناء العلائقي المبني على المصلحة الذاتية الفردية، وقواعد السلوك الاجتماعي التي يضبطها القانون ويثبّتها ويفرض احترامها وعن مختلف التعاقدات “المواطنية” الواعية “المسلّم بها”. إزاء ذلك تبدو الجامعة غير قابلة للوجود إلا وفق ما تنبني فيه من نمط عيش يتطلب أوّلا وأساسا استطاعة التكيف مع أنماط سلوك معيّرة ومقنّنة وتعاقدية من قبيل الالتزام بالوقت والانتظام في المكان والتفرغ للتحصيل الدراسي ثم للقيام بأبحاث…إلخ ولمدد طويلة، وهو ما يبدو مكلّفا بالنّسبة إلى المهمشين والفقراء و”غريبا” إلى حدّ عمّا اعتادوه من بناء تدبري- تلفيقي لأساليب تحصيل القوت ومجابهة صروف الحياة. وليس نجاح الفقراء والآفاقيين في زمن الجامعة الأولى في تونس قابلا للاستعادة لانتفاء شرطه التاريخي الاجتماعي الذي كان قوامه انفتاح السوق على منتجاتها وحاجة المجتمع لها واستطاعة “الدّولة” توظيفها وتوالد إمكانيات “تشغيلها”. في مقابل ذلك يدفع التعامل مع الأنظمة النظرية والعملية التي تبنيها الجامعة الواقعة تحت أثر كولونيالية المعرفة ويسعى من يقوم عليها (الجامعة) إلى تطبيقها وترويجها في المجتمع نحو تبني التّقليل من الكلفة وزيادة العائد وتحديث أنظمة التدبير الاجتماعي المتصرّف في جميع رؤوس الأموال ذات الصلة (المادية الاقتصادية، والاجتماعية، والعائلية والتضامنية، والثقافية). وليس يتم لهم (القائمون على الجامعة) ذلك إلا عن طريق الاستثمار المعمّم لرؤوس الأموال تلك والتثمين الشامل لعائداتها الممكنة وهو ما يستوجب من كلّ من يعتزم الانتظام في دروسها توظيف مقدّرات معيّنة منها الزمن المستدام للتركيم، والمخاطرة، والمجازفة الفردية، وقوّة رأس المال المعرفي خاصة والثقافي عامة وهو ما لا يملكه المحرومون من كل ذلك. وقد يكون هذا هو ما يفسر ميلهم، بل إصرارهم على بناء اجتماعية أخرى، تتدبر أمرها وتتصرّف في المخاطر بطريقة مغايرة لما تنشده الجامعة أصلا فيهجرونها أو يقلّ اعتبارهم لها أو لا يحصرون هويّاتهم الاجتماعية في الانتظام فيها بحيث يزاولون بالتوازي مع “زياراتهم” لها أيام الامتحانات خاصة مِهَنًا متقطعة وموسمية ويتقلّبون فيها على وقع حاجتهم للمال ولتوسيع شبكة علاقاتهم وتركيم رؤوس أموالهم الاجتماعية. من هذا المنظور تبني مثل هذه الجامعة الفوارق الاجتماعية- الثقافية وتعيد بناءها على أساس هذا الافتراق بين نمطي اجتماعية مختلفين. وعلى هذا الأساس، تبدو مثل هذه الجامعة في جوهرها غير ديمقراطية، بالمعنى الاجتماعي العميق للكلمة.

إن الربط بين “المسار الانتقالي المجتمعي الشامل” و”التغيير الجامعي” اللذين تشهدهما تونس يظهر أننا في سياق عالي المخاطر. يتعلّق بعض تلك المخاطر بمظاهر عجز لدى النخب السياسية الحاكمة في إدارة الشأن الجامعي، ويتعلق بعضها الآخر بانعدام جاهزية الأسرة الجامعية من هيئة تعليمية وهيئة إدارية وطلبة لملاقاة متطلبات جامعة تعيش هي ذاتها تغيرا حادا وسريعا. وبالفعل، وإزاء هذه المخاطر لا تُبدي الحركة الطلابية بمكوناتها المختلفة إلا حرصا على تسجيل الانتصارات الانتخابية سريعة الزوال والاستفادة من المناورة السياسية من دون أي تخطيط استراتيجي يتمكن من تنزيل شعار مركزي من قبيل “جامعة شعبية، تعليم ديمقراطي، ثقافة وطنية” مثلا إلى موضع البرمجة العملية الممكنة أو حتى المحتملة. وإزاء نفس المخاطر لا تبدي الحركة النقابية لمدرسي الجامعة التونسية إلا حرصا على إنفاذ استراتيجية التشريك أي تقاسم الأدوار بين ما تعتبره “هياكل تمثيلية بيداغوجية وعلمية وإدارية منتخبة للجامعيين” ذات أحقيةٍ تصوّرية وتسييرية كاملة من جهة وبين الهياكل الوزارية المركزية والإدارية الجهوية (تابعة للجامعات) والمحلية (تابعة للمؤسسات). وإزاء نفس المخاطر لا تبدي الهياكل الوزارية الرّسمية إلا حرصا متزايدا على التشبث بأقصى ما أمكن من الصلاحيات والمقدرات التنفيذية مُنفّسة عن الاحتقان الحادث ببعض إجراءات “تشريكية” و”تفاوضية” و”تداولية” تفضّل على الأغلب ألاّ تكون مخرجاتها ذات صبغة تقريرية.وليس من مكسب بعيد المدى ممكن لتظافر هذه الاستراتيجيات، على تعارضاتها الظرفية أحيانا، إلا توطيد محتمل للعلاقة بين الجامعة والسلط السياسية القائمة على حساب توطيد مطلوب للعلاقة بين الجامعة والمجتمع، ومن دون المساس بما يتعلّق بسوق المعرفة ببنيتها التي ذكرنا وشبكة علاقاتها التقليدية داخلا وخارجا.

ينفتح عمق مناقشة “التغيير الجامعي المنشود” في علاقته ب”التغير الاجتماعي الجاري” في تونس إذًا على مناقشة أنماط التصرّف في الشّأن الجامعي من داخل الأنظمة المعرفية والسياسية القائمة أو من خارجها، تلك الأنظمة الخاضعة لاستعمارية المعرفة والسياسة وبدائلها الّتي قد تجد لها مصادر في نماذج تفكير أخرى من قبيل ما أسست له الدراسات ما بعد الكولونيالية ودراسات جدل التحرّر والاستتباع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق