
علي عبد اللطيف اللافي:
دخلت تونس مع بداية السبعينات مرحلة جديدة اتسمت ملامحها الأساسية بداية تفكك الحزب الحاكم وتعدد محاكمات اليسار والبعثيين والوحدة الشعبية والصراع مع الحركة الطلابية وتواصلت هيمنة بورقيبة وشخصه على كل مظاهر الحياة السياسية وصولا إلى اختياره رئيسا مدى الحياة بل وأصبح محور كل الأحداث وتواصل إلغاء مظاهر التعددية والديمقراطية …
وفي هذه الحلقة الرابعة، نتناول بداية نشاط التيار الإسلامي وتطوره المطرد وكيف ساهم خريف الحزب الدستوري الحاكم في نسخته البورقيبية في الامتداد الأفقي للإسلاميين داخل المجتمع التونسي، خاصة وأنهم استقطبوا نسبة هامة من الفئات الشبابية …
الحلقة الرابعة:
بورقيبة و الجماعة الإسلامية في تونس، من وظّف من؟ (1972- 1980):
1– الجماعة الإسلامية في تونس ومرحلة التطور و التجذّر:
تطوّر نشاط الجماعة الإسلامية في تونس مقارنة بخطواتها الأولى في نهاية الستينات حيث استطاعت عقد مؤتمرها التأسيسي في أفريل 1972 (وهو ما يعرف بمؤتمر الأربعين أو مؤتمر ليلة القدر رغم أنه حسب القاضي صالح بن عبدالله مجرد لقاء هام لأهم الفاعلين في الجماعة)، وامتد تنظيمها جهويا ومحليا عبر تكثيفها للنشاط الدعوي والثقافي في مختلف المدن الكبرى و أسّست لحلقات أسبوعية في مساجد المعتمديات بل وربطتها بمواعيد الأسواق الأسبوعية، كما ربطت المناسبات بأنشطة أقرب لطبائع وخصوصية تلك القرى والمدن، وأعادت إصدار مجلة “المعرفة”[1]، والتي ألحقت بعد ذلك بمجلتي “الحبيب” و”المجتمع” كمنابر إعلامية للجماعة، كما اعتمدت خطابا سهل القبول من طرف أوساط الشباب والطلبة والأساتذة خاصة وأنها اعتبرت نفسها امتدادا “لحركات إصلاحية سبقتها في البلاد كحركة الطاهر بن عاشور…”[2]، كما استفادت من التناغم والجدل الدائر بين مكوناتها الثلاث ( الزيتوني – الإسلام التقليدي – المتأثرون بأفكار جماعة الإخوان)[3]…
و اعتبرت الجماعة الإسلامية في تونس خلال عقد السبعينات الاستثناء الوحيد في العالم العربي الذي نهل من مصادر تفكير الفكر الشيعي (علي شريعتي – مرتضى مطهري – محمد باقر الصدر – الشيخ فضل الله …) بل وتأثرت بالثورة الإيرانية من حيث القدرة على الامتداد في الأوساط التلمذية والطالبية والشعبية أيضا، كما تأثرت رؤاها (أي الجماعة) و كتابات الغنوشي أساسا بمختلف مدارس الفكر الإسلامي على غرار الندوي(الهند) – المودودي (باكستان)- مالك بن نبي(الجزائر).
2- شخصية المؤسّس وأثرها على تنظيم الجماعة وفكرها ومواقفها :
بدأ الغنوشي حياته اشتراكيا و ناصريا بعد أن أثّر بُكاء والدته على أحد أقربائها اليوسفيين بعد إعدامه من طرف النظام البورقيبي[4] في فكره ورؤاه وتوجهاته، بل وكان عنصرا حاسما من بين عوامل مُتعددة حكمت مواقفه وطباعه في صراعه السياسي لاحقا، وفعلا فقد انتمى الغنوشي في بداية الستينات للاتحاد الاشتراكي(تنظيم ناصري في سوريا) أثناء دراسته في سوريا ونشط في خلاياه هناك قبل أن يلتحق بجماعة “الدعوة والتبليغ”، ثم تعرّف على الإخوان و انتمى إلى حلقاتهم، وبعودته إلى تونس التقى مع شباب “الصحوة الإسلامية” فأسّس تنظيم الجماعة على ضوء النقاشات و تعدد الأنشطة الدعوية وزيارات القرى والمدن التونسية، و رغم حبه و خوضه للصراع الفكري والسياسي المحكوم بتطور الأحداث يمكن الجزم بقوة تأثير دراسة وتدريس الفلسفة عليه حتى أن بيانات الجماعة ونصوصها وبعض كتاباته لم تخلو من رؤى الفيلسوف المصري “زكي نجيب محمود”، والتي استشهد بها في أكثر من موضع (رغم كتابته ردا على كتاب نجيب محمود المعروف “خرافة الميتافيزيقيا”)، وهو العامل الذي أثّر وأثرى نشاط الجماعة و سمح لها بتنويع مصادر ثقافة أنصارها، وبعيدا عن تفاصيل مسار حياة الرجل، صبغت شخصية الفيلسوف الحالم بالديمقراطية والوحدة والتآلف بين الجميع، مسيرته و مسيرة حركته فقد عمد دائما إلى التوافق حتّى بين المختلفين داخل حركته وسعى دوما للتوفيق وإرضاء الغاضبين والتصالح معهم عبر منحهم مواقع تتناسب مع طباعهم وفكرهم ورؤاهم والأمثلة أكثر من أن تحصى يومها، ورفض في كل مرة أن يعطي للخلاف الطابع الشخصي بل أنه وفي كل مرة يشتد فيها الصراع السياسي وتجد فيها الحركة في معركة حاسمة كان الرجل يؤسس لبناء نظري عبر أحد كتاباته المتعددة والمترجمة لاحقا إلى أكثر من خمس لغات، بل أن كُلّ مواقفه كان يقدم فيها حلم الفيلسوف على القيادي الإسلامي الراديكالي التي كان الخصم يطبعه بها خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي…
3- بورقيبة والجماعة، و سؤال من وظف من؟
طبعا لا خلاف في أن ظهور التيار الإسلامي كما بيّنا أعلاه كان ردة فعل طبيعية من مجتمع عربي إسلامي على السياسة الثقافية للنظام والتي اعتمدت منطق التغريب والاستحمار الثقافي و خاصة تهميش اللغة العربية وإضعاف التواصل السياسي والثقافي والاجتماعي مع العالم العربي، وبالتالي وجدت الجماعة تجاوبا من قطاعات عدة ولقي خطابها ترحيبا وقبولا وخاصة في الجهات الداخلية إضافة إلى الانتعاشة في المدن الساحلية[5] …
ومن البداية حدث خلاف بين قيادة الجماعة حول هل ينشطون داخل الحزب الاشتراكي الدستوري أو يؤسسون تنظيما خارجه بعد فترة من تركيز نشاطهم في الجمعية التونسية للمحافظة على القرآن الكريم فتم، اختيار الحل الثاني وهو الحل الذي رفضه رئيس الجمعية صلاح الدين المستاوي والذي بقي في الحزب (أصبح لاحقا عضوا في لجنته المركزية) ويعرف الجميع أن ذلك الخلاف تطور بشكل كبير و انتهى بصفع الشيخ المستاوي للشاب عبد الفتاح مورو لرفضه رأي الشيخ المستاوي….
جاءت الجماعة رافدا لم يتوقعه الرئيس الحبيب بورقيبة وكأنها جاءته من السماء كما يقولون وهو الذي يعتمد سياسة خاصة في مواجهة الأحزاب الصاعدة والمناوئة له والتي سبق أن اعتمدها مع الحزب القديم ومع الحزب الشيوعي ومع مجموعة بريسبكتيف، أي منطق “الضرة”(الزوجة الثانية) فقد قلص نشاط الجماعة من الحضور الفكري لليسار في المعاهد والجامعات وخاضت معهم صراعا كبيرا وهو ما انتبه إليه اليسار وبعض فصائله فصاغوا نصوص عدة لمواجهة التأثير المستقبلي للتيار الديني ستحكم علاقتهم به في العقود اللاحقة للسبعينات و أحد تلك النصوص عرف بنص “الديناميكية”…
ورغم نفي محمد الصياح[6] وبعض وزراء بورقيبة لذلك من ناحية وجود سياسة منهجية في توظيف التيار الديني ضد اليسار، إلا أنّ النظام البورقيبي ترك مساحات كبرى للتيّار الإسلامي وغض الطرف عن أنشطته بغاية إرباك التيّارات اليسارية والقومية وفي حد أدنى لم يواجهه ويتصدى له في السبعينات بنفس الطرق التي وُوجه به اليسار الماركسي، وقد حاول الصياح فعليا شق الجماعة عبر التقرّب من حسن الغضباني[7]، كما حاول استمالة بعض عناصرها واختراقها تنظيميا …
كما تجدر الإشارة إلى أن عديدين من وزراء بورقيبة كانوا لا يرون مانعا بل ساعدوا التيار الإسلامي في أنشطته ودعموه معنويا على غرار عبد الله فرحات وجلولي فارس وهي مواقف شخصية أكثر منها سياسية رغم أن أحمد المناعي و الذي كان عنصرا مقربا و فاعلا في الجماعة أكد خلال السنوات الأخيرة بعد خروجه من النهضة أن علاقات قيادة الجماعة ( الحبيب المكني – الغنوشي) يومها كانت قوية مع وزير الدفاع عبدالله فرحات[8] ، إضافة إلى أن بعض أصار التيار الإسلامي من الناحية الفكرية والثقافية خيروا البقاء في الحزب الاشتراكي الدستوري والنضال من داخله…
- – الخلاصة:
أثر عامل السن على بورقيبة وأصبحت مقاليد الأمور بيد غيره من البطانة والوزراء ورجال الحزب وسط ترهل للنظام الذي بدأ يدفع ثمن سياساته الخرقاء والاستبدادية و نتائج خياراته الاقتصادية والثقافية فتعددت الصراعات داخله وغادر التيار الليبيرالي، و بدأت ملامح الصراع مع المنظمة الشغيلة حتى بلغ أوجه عبر المواجهة الدموية في جانفي 1978 وبالتالي لم يستطع النظام فهم الأبعاد الإستراتيجية لقوة التيار الإسلامي والذي قويت شوكته وتطور في كل المجالات رغم قصوره في جوانب عدة من حيث انه لم يستفد من تجربة الحركة اليوسفية في صراعها مع بورقيبة، ولا هو تبنى خيار مواصلة تحقيق أهدافها إضافة على أنه وجد نفسه مغيبا عن المطالب الاجتماعية فتفاجأ مثلا بأحداث جانفي 1978 و لم يفهم عقله السياسي أحداث قفصة (27 جانفي 1980) رغم تجذّره القوي في الحركة الطلابية واكتساحه الكبير للأوساط التلمذية و الجامعية حيث تبنى تياره الطلابي مطالب الجماهير العمالية واعتبر “المرغني ورفاقه” ثوارا وأبطالا وبالتالي كان مؤتمر منوبة في 1979 (والذي تبنى تسمية الاتجاه الإسلامي) مفتتحا لمرحلة جديدة في مساره، و هو ما يعني أن الإسلاميين استفادوا من بورقيبة وخاصموه أيضا لتبدأ لا حقا مرحلة المواجهة بعد مرحلة التطور العقلاني و اكتساب خصوصيات مقارنة بمثيلاتها في العالم العربي والإسلامي…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] على اعتبار أن العدد الأول من المجلة صدر سنة 1961 ولكنه صُودر وتوقفت طوال أكثر من عشر سنوات…
[2] النالوتي (سعيدة) ، الصحافة الإسلامية في تونس: مجلة المعرفة (رسالة ختم الدروس الجامعية 1979-1980)
[3] أنظر الحلقة الثالثة من الدراسة موقع شمال إفريقيا، أو صحيفة الإعلان 9 ماي 2014 ص 11
[4] شهادة الغنوشي للكاتب “صالح قلاب”، مجلة “المجلة” اللندنية 1988
[5] الغزي(كمال) ،الانتعاشة الإسلامية في الساحل أطروحة بحث في كلية 9 أفريل
[6] نفى ذلك أثناء نقاش كتاب لطفي حجي “بورقيبة والإسلام” في منتدى الموقف
[7] لقد أكد لي عندما سألته عن الموضوع على هامش ندوات مؤسسة التميمي أنه نجح في افتكاك الغضباني منهم ( رغم أن الغضباني نشط مع الجماعة دون أن يكون عضوا في التنظيم السري للجماعة)…
[8] رد المناعي على مقال للطفي زيتون حول أحداث 26 جانفي 1978 ، موقع تنيس نيوز