
الدكتور توفيق المديني:
شكّلت اتفاقيات الحكم الذاتي، التي تم توقيعها في تونس في 3 جوان / يونيو 1955، والتي منحت تونس بموجبها استقلالا داخليا، منعرجا سياسيا وتاريخيا كبيرا في تاريخ الحركة الوطنية التونسية، التي كان يقودها الحزب الدستوري الجديد بزعامة الحبيب بورقيبة. وعاشت تونس فترة مخاض عسيرة بين 3جوان / يونيو 1955 و 20 مارس / آذار 1956، تاريخ استقلال تونس، حيث تفجرت كل التناقضات الأيديولوجية والسياسية والشخصية، التي كانت الحركة الوطنية قد طمستها خلال مرحلة تأطيرها وتجنيدها لكل القوى الحية من أجل خوض معركة التحرر الوطني، والظفر بالاستقلال.
وهكذا، تفجر الصراع بين جناح الحبيب بورقيبة رئيس الحزب الحر الدستوري الجديد، الذي كان من أشد المدافعين عن التسوية السياسية مع الاستعمار الفرنسي، وبين جناح صالح بن يوسف الأمين العام للحزب،الذي كان من أشد المعارضين لهذه التسوية.ومنذ ذلك الحين ولدت الحركة اليوسفية، التي كان صالح بن يوسف أحد عناصرها ومكوناتها، ولكنها كانت تضم تيارات فكرية وأحزاب سياسية ومنظمات نقابية وعناصر وطنية وأخرى ثورية، تؤمن بالكفاح المسلح، وقطاعات شعبية عريضة، متناقضة مع نهج الحبيب بورقيبة المساوم مع الاستعمار الفرنسي. فالحركة اليوسفية هي أحد تعبيرات الأزمة الحادة التي دخلت فيها الحركة الوطنية التونسية، والتي أدت الى أكبر انشقاق شهده حزب الدستور الجديد،وكشفت بأن هذا التنظيم ليس حزبا سياسيا له برنامج واضح وعقيدة ثابتة لا تزحزح،بقدر ما هو “حركة وطنية” التفّت حولها تيارات مختلفة وأحيانا متباينة.(1)
1-مكونات الحركة اليوسفية:
تعود جذور الحركة اليوسفية الى بدايات هذا القرن حين تشكل الحزب الحر الدستوري سنة 1920،على يد الزعيم عبد العزيز الثعالبي، الذي كان من أركان الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي،والإصلاح الفكري الدين الديني في تونس، وكان متشبثا بالتراث العربي الإسلامي،كمصدر للتشريع، ومؤمنا بأن العرب أمة واحدة لا بد أن تتوحد. فقد كتب على سبيل المثال في مجلة الشهاب التي كانت تصدر في الجزائر في عدد 1 جويلية / يوليو سنة 1939 تحت عنوان “الوحدة العربية في طريق التحقيق”: “الوحدة العربية كيان عظيم ثابت، غير قابل للتجزئة والانفصال ، يشغل قسما كبيرا من رقعة آسيا الغربية وشطرا من إفريقيا يمتد رأسه في الشرق من المحيط العربي، ويسير مغربا غربا الى المحط الأطلنطي ، ويضم في هذا الشطر نصف القارة الإفريقية”.
وقد وقف الحزب الحر الدستوري القديم الى جانب صالح بن يوسف الذي أصبح يرى فيه معبرا عن تطلعاته الحزب الدستوري القديم وأفكاره،ومدافعا عن توجهاته، والزعيم الكبير صاحب الرصيد النضالي القادر على أن يضاهي بورقيبة، والوقوف بندية في وجهه. كما وقفت جامعة الزيتونة المدافعة عن الهوية العربية الإسلامية لتونس الى جانب صالح بن يوسف، نظرا الى عداوتها التقليدية لبورقيبة بسبب علمانيته وميوله الغربية السافرة.
وانضم كبار الفلاحين الذين مكّنهم صالح بن يوسف من العبور الى ”الاتحاد العام للفلاحة التونسية” الى الحركة اليوسفية”، بهدف حماية مصالحهم أمام خطر النزعة العمالية الاشتراكية، التي كان يمثلها الاتحاد العام التونسي للشغل الذي تحالف مع الرئيس بورقيبة خلال فترة الانشقاق داخل الحركة الوطنية.
كما انضم أيضا قسم من جيش التحرير (الفلاقة) الذين لهم ميول عروبية مشرقية الى الحركة اليوسفية، بهدف استعادة مكانتهم في معركة التحرير الوطني، واستعادة سلاحهم الذي جردهم منه بورقيبة ، ليحصد وحده ثمرة كفاحهم ويحصد تضحياتهم وما بذلوا من دمائهم وأرواحهم .(2)
ولقد وجدت البرجوازية التقليدية التونسية التي بدأت آنذاك تتضح معالمها الطبقية والأيديولوجية، وهي تحاول أن تكون وطنية وأكثر راديكالية من فئات الطبقة الوسطى المهزوزة ذات الطابع الإقليمي، وجدت ضالتها في الحركة اليوسفية، لأن هذه الأخيرة كانت تطالب ”بتحرير المغرب العربي تحريرا كاملا، وفي سبيل توحيد سوق المغرب العربي”.
وفيما جرّت الحركة اليوسفية وراءها في تونس القوى التقليدية المتداعية، المتعلقة بالماضي والمتخوفة من المستقبل، والمدافعة عن الهوية العربية الإسلامية للبلاد، كان جناح بورقيبة رئيس الحزب الحر الدستوري الجديد المتشبع بالثقافة الفرنسية، والمدافع عن مشروع المستعمر التمديني، والذي ينادي بسياسة المراحل – وبمبدأ خذ وطالب – الذي يندرج ضمن ما يسميه بفلسفة ”التهديد والترغيب” قد استقطب فئات الطبقة الوسطى المدنية والريفية، وكذلك العمال والأجراء والموظفين المنضوين تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل بزعامة أحمد بن صالح، الذي تقدم ببرنامج اقتصادي واجتماعي ذي طابع إصلاحي أهم ركائزه تأميم الشركات الاستعمارية الفرنسية وبعث قطاع تعاضدي خاصة في الفلاحة مع سن قوانين اجتماعية عصرية، والاعتماد على تدخل الدولة في الميدان الاقتصادي على أساس تخطيط يحدد أهداف تحقيق التنمية الاقتصادية ووسائلها.
وفي خضم الأزمة الحادة التي عرفتها الحركة الوطنية اليوسفية بسبب اتفاقيات الحكم الذاتي، تحالف الاتحاد العام التونسي للشغل مع جناح الحبيب بورقيبة.
2-البعد القومي للحركة اليوسفية:
يعود البعد القومي العربي للحركة اليوسفية الى المؤتمر الذي عقد في القاهرة عام 1947، وضم كافة حركات التحرر الوطني في المغرب العربي وتونس. وقد انبثق عن هذا المؤتمر لجنة سميث ”لجنة تحرير المغرب العربي في 5 جانفي / يناير 1948، أسندت رئاستها الى الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، وأمانتها العامة للحبيب بورقيبة، وينص ميثاق اللجنة على المبادئ التالية:
- ”المغرب العربي بالإسلام كان، وللإسلام عاش، وعلى الإسلام سيسير في حياته المستقبلية.
- المغرب العربي جزء لا يتجزأ من بلاد العروبة وتعاونه في دائرة الجامعة العربية،على قدم المساواة مع بقية الأقطار العربية أمر طبيعي ولازم.
- الاستقلال المأمول للمغرب العربي هو الاستقلال التام لكافة أقطاره الثلاثة تونس والجزائر ومراكش.
- لا غاية يسعى لها قبل الاستقلال.
- لا مفاوضة مع المستعمر في الجزئيات ضمن النظام الحاضر.
- لا مفاوضة إلا بعد إعلان الاستقلال.
- للأحزاب الأعضاء في ”لجنة تحرير المغرب العربي” أن تدخل في مخابرات مع ممثل الحكومة الفرنسية والاسبانية على شرط أن تطّلع اللجنة على سر مراحل هذه المخابرات أولا بأول
- حصول قطر من الأقطار الثلاثة على استقلاله التام لا يسقط عن اللجنة واجبها في مواصلة الكفاح لتحرير البقية.
وافق على هذا الميثاق محمد بن عبد الكريم الخطابي ورؤساء الأحزاب الوطنية المغربية التالية:
عن تونس – الحزب الدستوري الجديد- الحبيب بورقيبة، الحبيب ثامر، الحزب الدستوري القديم- محي الدين القليبي.
عن الجزائر – حزب الاستقلال – علال الفاسي، أحمد بن مليح. حزب الشورى والاستقلال: محمد العربي العلمي، الناصر الكتابي، حزب الاصلاح الوطني، عبد الخالق الطريس، محمد أحمد بن عبود. حزب الوحدة المغربية. محمد اليمني الناصري. (3)
وقد دبّت الخلافات بين أعضاء مكتب المغرب العربي، وخاصة بين قادة الحبيب بورقيبة التي وافقت منذ البدء على الارتباط بالأنظمة الرجعية العربية، وبالامبريالية الأمريكية، لأنها رأت أن المعادلات الدولية أساسا هي التي تأتي بحل للمسألة الوطنية التونسية، وبين قيادة كل من الدكتور الحبيب ثامر، ويوسف الرويسي عضو الديوان السياسي للحزب الجديد ورئيس لجنة تحرير المغرب العربي بدمشق، والأمير عبد الكريم الخطابي، بسبب الموقف من الكفاح المسلح.
ومن العوامل التي أسهمت إسهاما فعليا في تعميق البعد القومي للحركة اليوسفية ، وبالتالي في إخراج المسألة الوطنية التونسية من حيزها القطري الضيق الى بعدها العربي، اندلاع ثورة 23 جويلية / يوليو في مصر عام 1952 بزعامة عبد الناصر ، التي شلت نقطة انعطاف كبيرة في صعود الحركة القومية العربية الى واجهة الأحداث، من خلال تحقيق الاستقلال والجلاء، وتحرير الفلاحين من قيود الملاكين العقاريين الكبار وظلمهم، وتوسيع القطاع العام ، وتأميم الرأسمال الأجنبي، والقضاء على البرجوازية الطفيلية، ورفع عبد الناصر شعاره المجلجل ”ارفع رأسك يا أخي فقد ولى عهد الاستبداد” الذي تردّد صداه في كل الوطن العربي، ومن خلال مقاومة الهيمنة الامبريالية، عبر مقاومة الأحلاف العسكرية، والدعوى الى الحياد الايجابي، حيث شكل انعقاد مؤتمر باندونغ بأندونيسيا في أفريل / نيسان 1955، حدثا سياسيا هائلا في كل العالم ، حين شاركت فيه كل من الهند والصين ومصر ويوغسلافيا، وحين جسد ذلك المؤتمر خطا سياسيا واضحا يدعو الى مقاومة الاستعمار، ومساندة حركات التحرر الوطني في العالم، وخاصة في شمال إفريقيا، والى انتهاج الحياد إزاء الصراع السياسي والإيديولوجي بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية.وكان الزعيم صالح بن يوسف قد حضر مؤتمر باندونغ، وهذا ما عزز حضوره السياسي كزعيم وطني، وعزز أيضا علاقاته مع عبد الناصر، وزعماء العالم الثالث آنذاك.
وفضلا عن ذلك، كان لهزيمة الامبريالية الفرنسية في معركة ”ديان بيان فو” في فيتنام في 7 ماي / أيار 1954، واندلاع الثورة المسلحة في الجزائر في أول نوفمبر من العام ذاته، الأثر البالغ في تجذير الحركة اليوسفية من ناحية، وفي إجراء الدولة الفرنسية تعديلات على سياستها الاستعمارية القديمة لجعلها مقبولة أكثر من ناحية أخرى.
فعندما أصبح صالح بن يوسف زعيما لحركة المعارضة للاتفاقيات عام 1955، تلقى الدعم القوي من جانب قيادات الحزب الدستوري ذات الاتجاه القومي المعروف، وخاصة من يوسف الرويسي الذي كان يعتبر مشاركة بن يوسف في حكومة المفاوضات على أساس غير الاستقلال خيانة للالتزامات الوطنية القومية (4). كما اصطف مندوب الحزب الدستوري في القاهرة إبراهيم طوبال، الى جانب صالح بن يوسف، حيث أصبح الممثل الرسمي للحزب الدستوري الجديد في لجنة تحرير المغرب العربي.
وكانت لجنة تحرير المغرب العربي قد عقدت اجتماعا بالقاهرة بتاريخ 14 أكتوبر 1955، واتخذت فيه القرارات التالية:
أولاـــ فصل الديوان السياسي للحزب ورئيسه الحبيب بورقيبة من عضوية اللجنة.
ثانياـــ اعتبار أن السلطات التي للديوان السياسي قد انتقلت الى يد الأمين العام صالح بن يوسف، نظرا الى أنه هو الذي بقي محافظا على المبادئ الاستقلالية التي انضم الحزب على أساسها الى لجنة تحرير المغرب العربي.
ثالثا ـــ يبقى ممثل السيد صالح بن يوسف (إبراهيم طوبال) هو الممثل الرسمي للحزب الدستوري في لجنة تحرير المغرب العربي الى أن يتمكن جمهور الحزب من البت في مصير الديوان السياسي الحالي وتعيين المسؤولين الجدد في سياسة الحزب وذلك في جو بعيد عن الإرهاب الفرنسي وضغط الديوان السياسي الحالي.
هذه القرارات هدفها حماية الحركة الاستقلالية بالمغرب العربي من التوجه الاستعماري الذي بدأ يتسرب الى بعض القادة، وه تؤمن بأنه لا خلاص لتونس إلا بالعودة الى كفاحها المستمر في سبيل تحقيق الاستقلال الصحيح متضامنة ف ذلك مع شقيقتيها مراكش والجزائر (5).
وهكذا، تبلور خط الحركة اليوسفية، باعتباره تيارا وطنيا وعروبيا يقوده الزعيم صالح بن يوسف، الذي استطاع أن شق الحزب الحر الدستوري التونسي الى قسمين: الديوان السياسي بزعامة الحبيب بورقيبة، والأمانة العامة بزعامة صالح بن يوسف. وتلقت الحركة اليوسفية دعما قويا من جبهة التحرير الوطني الجزائرية بإمضاء محمد خيضر، ومن حزب الاستقلال المغربي بإمضاء علال الفاسي.
3- طريقتان لحل المسألة الوطنية في تونس:
انفجر الصراع بين جناحي الحزب الحر الدستوري الجديد في عام 1955، بسبب اتفاقيات 3 جوان / حزيران من العام ذاته – يقول أحد أساتذة التاريخ الفرنسيين التقدميين في تحليل الأحداث التي أعقبت التوقيع على اتفاقية ”الاستقلال الداخلي” لتونس عام 1955، والتي قاومها الشعب التونسي بكل فئاته وفصائله: وطلب بورقيبة مساندة القوات الفرنسية له من أجل قمع سريع وبدون رحمة فقبلت الحكومة (الحكومة الانتقالية) فورا، وتحصلت القيادة العسكرية على الإمكانيات التي حرمت منها من قبل كي تقضي على عصابات ”الفلاقة” (رجال حرب العصابات في تونس إبان الاحتلال الفرنسي) المتمركزة بالجبال التونسية وشنت الجيوش التونسية والفرنسية التي يدعمها الطيران بقيادة الجنرال ”غيوبون” حملة سريعة. فتم سحق الانتفاضة في ستة أسابيع بينما أسدلت الصحافة الصمت على الحوادث.
لقد أدرك بورقيبة أن التسوية السياسية مع الاستعمار الفرنسي هي مفتاح الحل للمسألة الوطنية التونسية، لذلك ضحى بالمقاومة المسلحة وعمل على تجريدها من السلاح، لأنه يعلم أن استمرار المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي، يعني أن مركز الثقل السياسي سيمل بكل تأكيد لمصلحة الحركة اليوسفية التي تقود هذا الكفاح المسلح، والمتحالفة عضويا مع الثورة الجزائرية.
وعلى الرغم من أن صالح بن يوسف حاول أن يحسم الصراع مع بورقيبة على أرضية سياسية ، من خلال انعقاد مؤتمر تاريخي للحزب ليحسم الشعب الخلاف حول الاتفاقات ، إلا أن بورقيبة بتحالفه مع الاستعمار الفرنسي ولجوئه الى القوة لحسم الخلاف مع خصمه، جعل بن يوسف يحتاج الى أسلوب المواجهة العسكرية أمام بورقيبة الذي همته شعارات العروبة والإسلام المتجذرة في أعماق نفوس الشعب التونسي. آنذاك استقطبت الحركة اليوسفية قيادات حركة المقاومة المسلحة في تونس، ومن بينها الطاهر الأسود باعتباره القائد العام لجيش التحرير التونسي، ومجموعات فدائية تتألف من عناصر تونسية وجزائرية مشتركة ومن أبرزها مجموعات “رضا بن عمار” بالعاصمة، “عبد اللطيف زهير” بالساحل التونسي، “مصباح النيفر” بالجنوب الشرقي، “عبد الرحمان جابا الله” في الجنوب الغربي، “الطيب زلاق” بالشمال الغربي، أما عن تقدير أعدادهم فيتراوح ما بين 600 و 1500 رجل.
وأمام هذه التعبئة للمقاومة المسلحة من جانب الحركة اليوسفية، والتحام هذه الأخيرة بالثورة المسلحة الجزائرية، وتحالفها مع حركة القومية العربية الصاعدة في المشرق العربي، عمل بورقيبة رئيس ”الديوان السياسي” للحزب الدستوري الجديد على بعث ”لجان اليقظة” وهي مليشيات حزبية تتألف من مجموعات مسلحة يقودها رجال مثل “محجوب بن علي”، و”حسين بوزيان” و”ساسي لسود”، و”حسن الصيادي”، و”عمر شاشية” وغيرهم، حيث كان يكمن دورها في تصفية الحركة اليوسفية، وتحالفت هذه اللجان مع القوات النظامية التونسية والجيش الفرنسي للقيام بهذه المهمة. فقد أقلع سلاح الجو الفرنسي من تونس بين 27 جانفي / يناير و 2فيفري 1956 اثنتين وستين مرة في مهام استطلاعية أو لحماية القوافل العسكرية (6). وقد أدى التدخل المكثف للطيران الفرنسي الى إحداث مذبحة في منطقتي مدنين ومطماطة ، بعد انضمام قبائل الجنوب الى الحركة اليوسفية، حيث كان الشعور بالحضور العسكري الفرنسي حادا. وقد أسفر هذا التدخل عن أكثر من 400 قتيل بين جانفي / يناير وجوان / حزيران 1956 (7). وقامت الشرطة من جهتها باعتقال 2372 من اليوسفيين حسب المصادر الرسمية. هذا البطش أدى الى استسلام تدريجي لأهم القبائل في الجنوب، تلاها استسلام المجموعات المسلحة. وأبرزها استسلام الطاهر الأسود في 3 جويلية / يوليو 1956. وقد بلغ عدد المقاومين الذين استسلموا للسلطات التونسية 600 رجل بين فيفري وجويلية / يوليو 1956.
ونظرا الى ما كان للحركة اليوسفية من حضور شعبي مسلح في الجنوب التونسي و من خطر ماحق كان يهدد الاستعمار الفرنسي على صعيد تونس والجزائر معا، بسبب التحالف والتمازج بين رجال المقاومة المسلحة على طول الشريط الحدودي للبلدين، وتخوف بورقيبة من امتداد الثورة الجزائرية الى تونس، لجأت فرنسا الى الدخول في “لعبة الاستقلال”. وهو ما أفصح عنه الآن سافاري وزير الشؤون المغربية والتونسية آنذاك، حين صرح أمام البرلمان الفرنسي في جوان / حزيران 1956 قائلا: ”لقد وقعت فرنسا اتفاقية 20 مارس / آذار 1956 (وثيقة استقلال تونس) كي توقف الثورة التي تنخر تونس، وكي تقطع محاولات الالتحام مع حركة الثورة ف الجزائر ، وتمنع تونس من الاشتراك في الجامعة العربية وكي تساند أخيرا حزب بورقيبة صديق فرنسا الذي يعمل على إيقاف المد القومي العربي تجاه أفريقيا الشمالية” (8).
وفيما كان بورقيبة يرى حل المسألة الوطنية التونسية في باريس عن طريق الارتماء في أحضان الغرب، ويرسم مستقبل تونس ضمن الدائرة الغربية المتوسطية، كان صالح بن يوسف يرى أن حل المسألة الوطنية التونسية يكمن في تعزيز التلاحم الكفاحي مع الثورة الجزائرية المسلحة من أجل تحرير كل المغرب العربي، وفي توطيد العلاقة مع القاهرة، حيث أصبح فيها عبد الناصر في تلك الفترة العدو اللدود للاستعمار عامة والفرنسي بوجه خاص، بسبب دعمه المادي والمعنوي للثورة الجزائرية، وفي رسم مستقبل تونس ضمن دائرة الانتماء للهوية العربية الإسلامية.
وهكذا، فرضت فرنسا تسوية سياسية غير عادلة لحل المسـألة الوطنية التونسية، لأن الحكومة الفرنسية تعتبر الحبيب بورقيبة جزءا منها، ووجوده على رأس السلطة ضروريا، ولأنه ينتمي الى القيادات العربية الاستسلامية، التي تخدم الأهداف الغربية. ولما كان الحبيب بورقيبة و لا يمثل إرادة الشعب التونسي، ولا يدافع عن قضيته، ولا يحترم إرادته، فقد أعلن ، أنه يتبرأ من ”الجامعة العربية” ، مضيفا : ”إني لست منها ولاهي مني وإني لا أبالي لا بنداءاتها ولا بشتائمها. على أنه يوجد تضامن تاريخي يرتكز على ذكريات تاريخية ”(9). وقد استنكر يوسف الرويسي بشدة ”كيف يعلن الحبيب بورقيبة متحديا شعور الشعب، أن ما يربطنا بالعرب ليس إلا من قبيل الذكريات التاريخية. وأن مصالح تونس ترتبط بالغرب وبفرنسا خاصة، وأن مرسيليا أقرب الى تونس من دمشق أو القاهرة” (10).
لقد نزلت الامبريالية الفرنسية بكل ثقلها في المغرب العربي ، لتعديل ميزان القوى لمصلحة بورقيبة ، ولتحسم معركة حل المسألة الوطنية التونسية على أرضية الخط الذي يبقي تونس تدور في فلك الاستعمار الجديد. ولم تستطع الحركة اليوسفية المدعومة عربيا أن تصمد كثيرا في هذه المعركة غير المتكافئة. وكانت نتيجة هذه المعركة بين التيار التغريبي الذي يقوده بورقيبة ، والتيار الوطني العروبي الذي يقوده صالح بن يوسف، أن أدار نظام بورقيبة الجديد بظهره الى المشرق العربي، وعمق قطيعته مع الأمة العربية، وبلغ به الأمر حد قطع العلاقات مع ”الجمهورية العربية المتحدة” بسبب لجوء صالح بن يوسف الى القاهرة وتدبيره من هناك محاولات لاغتيال الحبيب بورقيبة (11).وقد أصبح النظام التونسي يعش عزلة رهيبة، خاصة بعد وصول الجزائر الى الاستقلال، ما دفع بورقيبة الى افتعال معركة بنزرت في جويلية / يوليو عام 1961، التي وجد فيها بورقيبة فرصة يغتنمها لإخماد نضالات الجماهير،… للتخلص من العناصر اليوسفية المتحالفة مع جبهة التحرير الوطني في الجزائر، حيث أصبح تطور النضال المسلح هناك يهدده ، ويهدد الامبريالية الفرنسية. وفي هذه المعركة امتنع بورقيبة عن تسليم السلاح لغير أعضاء الحزب الحر الدستوري مما دفع بأبناء الشعب العزّل الى أن يستقبلوا بصدورهم قنابل الطائرات الفرنسية وسقط منهم 1500 شهيدا.
ولكن معركة ببنزرت التي تكبّد فيها الشعب التونسي خسائر جسيمة على كافة المستويات،أرادها نظام بورقيبة أن تكون مدخلا لكسر الطوق العربي المتضامن مع الحركة اليوسفية، ولاستبعاد تهمة التعاون مع الاستعمار الفرنسي، كما أرادها أن تكون نافذة يطرد منها القوات الفرنسية، ويفتح بعد ذلك الباب أمام القوات الأمريكية،حيث تم إبرام اتفاقيات سرية، منحت الولايات المتحدة الأمريكية بمقتضاها قاعدتين عسكريتين: الأولى في الجنوب ، والثانية في الشمال. وتمّ إيجار حلق الوادي للأسطول الأمريكي السادس.
4- أي مصير لاقته الحركة اليوسفية؟
لقد انهزمت الحركة اليوسفية في المواجهة السياسية والعسكرية مع النظام البورقيبي الوليد، المدعوم من الامبريالية الفرنسية. وعلى الرغم مما أصاب فرنسا من إنهاك، بسبب تنامي المقاومة المسلحة في تونس، وتجذر الثورة الجزائرية، فقد كانت الامبريالية الأمريكية في عنفوانها. وإذا كان ضعف فرنسا وطموح الامبريالية الأمريكية في احتلال موقع فرنسا، قد حمل هذه الأخيرة على التفاوض مع بورقيبة من أجل تسوية سياسية للمسألة الوطنية والسماح باستقلال قطري جزئي لتونس، فإن عملية الاستقلال كما طرحتها الحركة اليوسفية، والتي تعني تشديد النضال المسلح ضد الجيوش الفرنسية على التراب التونسي، وإجلاء القواعد الفرنسية من تونس، ومواصلة الكفاح المسلح الى جانب الثورة الجزائرية، وتوحيد كامل المغرب العربي تحت راية العروبة، لم تكن مسموحة آنذاك ، ولا هي مقبولة من الغرب. فقد كان ضروريا للامبريالية الفرنسية أن يبقى المغرب العربي هامشيا تابعا، وإن بصيغ جديدة من خلال التعامل مع النخب الحاكمة الجديدة، التي أنشأت علاقة قوية مع المراكز الامبريالية الغربية.
وكانت الحركة اليوسفية تمثل تيارا قوميا ف أهدافه – يرتكز على شعار العروبة والإسلام كمرجعية ثنائية منغرسة في وجدان المجتمع- لكنه شبه عصري وتقليدي في واقعه، وتلفيقي في منهجه، ويكفي أن نشير هنا الى طبيعة القوى التي اصطفت الى جانب الحركة اليوسفية، وهي القوى التقليدية المتشبعة بالفكر الإصلاحي السلفي، الفكر المصفح إزاء ما يشكل جوهر العصر أو جوهر الحضارة الغربية.
فالحركة اليوسفية لم تستطع أن تبلور فكرها الإيديولوجي المستقل والقائم بذاته، كما هو حال الحركات القومية في المشرق العربي، لأنها حركة ارتبطت بردود الفعل الوطنية بسبب اتفاقيات 3 جوان / حزيران 1955. ولهذا ظلت أسيرة الفكر التلفيقي الذي فقد توازنه بين ثقل التراث العربي الإسلامي وصدمة الغرب وفكره المهيمن. كما أن التقارب الأيديولوجي بين صالح بن يوسف وعبد الناصر، والناتج عن معايشتهما بداية مرحلة المد القومي العربي الجماهيري، إبان أحداث الجمهورية العربية المتحدة، لم يمنع الأول من الاحتفاظ بمسافة أيديولوجية بارزة تجاه القومية العربية العلمانية المشرقية.
لذلك كانت الحركة اليوسفية عاجزة عن بلورة مشروع فكري ثقافي يسهم في تأسيس خط قومي حديث، وبالتالي في التحول الى قوة سياسية منظمة وفاعلة قادرة أن تؤثر في مستقبل تونس السياسي، وظلت الحركة اليوسفية تعبيرا عن الاحباطات ، والخيبات ، وهي ي نهاية الأمر حركة رفض أكثر منها حركة بناء.، والالتقاء كان أساسا حول رفض هيمنة بورقيبة وما كان يمثله من مشاريع لتونس المستقلة… فالعجز عن تقديم بديل، كان نابعا أساسا من طبيعة هذه الحركة المحافظة، القادرة أكثر على المقاومة السلبية، مثل محافظة الباي على العرش كرمز للسيادة التونسية. فهي حركة تلتفت الى الماضي أكثر مما تنظر الى المستقبل ، ولكن الذي يفسر فشلها خاصة ، ليست طبيعتها التي كانت تتلاءم أكثر مع طبيعة المجتمع، وإنما عوامل خارجية كانت حاسمة في تحديد مصير جميع المعارك التي شهدتها تونس في تلك الفترة سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية والحضارية (12).
ومع هزيمة المعارضة اليوسفية ، دخلت تونس مرحلة جديدة اتسمت بهيمنة نظام الحزب الواحد ، والفكر الواحد، والرأي الواحد. فألغى نظام بورقيبة المظاهر الديمقراطية، التي حاول أن يتظاهر بها في البداية ، ومنع وجود الأحزاب، وقمع حرية الصحافة، وأغلق صحف المعارضة، والتجأ الى استخدام الإغراءات ، والى اعتماد أساليب الإرهاب والمطاردة والتصفية الجسدية ، التي كان الزعيم صالح بن يوسف أول ضحاياها، حث تم اغتياله على يد المحترف البشير زرق العيون، وذلك ف مدينة فرانكفورت بألمانيا الغربية عام 1962.
وبعد تصفية الحركة اليوسفية ، ارتمى النظام البورقيبي في أحضان الامبريالية الغربية، التي مكنته من كسب المعركة مع المعارضة العروبية، ورفع شعار معاداة القومية العربية، والتضامن مع العالم الغربي. وإذا كانت الحركة القومية التقليدية قد صفيت رسما من خلال تصفية جناح صالح بن يوسف في الحزب الدستوري عام 1958، فإن التيار القومي التقليدي في المغرب الأقصى قد ضرب أيضا، حيث كان يمثله الجناح التقدمي في حزب الاستقلال الانضمامي ، والذي انفصل فيما بعد بقيادة الزعيم المهدي بن بركة ليكون ”اتحاد القوى الشعبية” . وانتهت آخر مواقع هذا التيار القومي التقليدي عندما ضرب ”أحمد بن بلا” ممثل جناح المغرب العربي في جبهة التحرير الوطني الجزائرية ، وذلك في جوان / حزيران 1965.
وبعد أن قام النظام البورقيبي بتصفية صالح بن يوسف اغتيالا في ألمانيا الغربية، حدثت في تونس ف نهاية عام 1962 محاولة انقلابية ذات طبيعة بورجوازية صغيرة وطنية غير ملتحمة بالجماهير، شارك فيها عدد من العسكريين والمدنيين المنتمين الى المعارضة اليوسفية. فكانت فرصة جديدة للنظام البورقيبي الذي أراد أن يبرهن من خلال استغلالها على ”قوته وجديته”. وكان حصاد هذه المحاولة إعدام أغلب العناصر المشاركة فيها. وكان من بين المشاركين في الانقلاب وحكم عليه بالإعدام غيابيا الشيخ المسطاري بن سعيد، الذي توفي في دمشق في جويلية / يوليو 1997.
وفي بداية السبعينات شكلت العناصر المتبقية من تيار المعارضة اليوسفية حركة سياسية جديدة حملت اسم “الجبهة القومية التقدمية لتحرير تونس”. ويقول عمارة ضو بن نايل أحد قادة “الجبهة”: “لقد بدأ نشاطنا منذ عام 1970، وكان أول نشاط علني ف عام 1972، حيث أعلن اسم التنظيم في بيروت عبر مجلة ”بيروت المساء”. وقد حملنا وقتها اسم الجبهة القومية التقدمية لتحرير تونس، وقد توافق هذا الإعلان مع نشر ميثاق الجبهة في المجلة ذاتها (13).
لقد عززت الجبهة القومية التقدمية لتحرير تونس علاقاتها مع النظامين الليبي والجزائري، حيث كانت تتمتع فيهما بوجود سياسي شبه علني وشبه سري. وعندما أعلن في تونس عن إجراء انتخابات رئاسية عام 1974، قدمت الجبهة القومية مرشحا باسمها هو الشيخ المسطاري بن سعيد (أحد رموز انقلاب عام 1962، والمحكموم عليه بالإعدام غيابيا، ويقيم في المنفى متنقلا بين طرابلس والجزائر) ليكون منافسا للرئيس الحبيب بورقيبة، الذي كان الحزب الاشتراكي الدستوري قد اتخذ قرارا بتجديد رئاسته وانتخابه رئسا للبلاد مدى الحياة.
وكان الشيخ المرحوم المسطاري بن سعيد (توفي في دمشق سنة 1995) قدم طلب ترشحه الى الانتخابات الرئاسية بوساطة السفارة التونسية في الجزائر. وفي مقابلة صحفية أجرتها معه جريدة السفير اللبنانية أعلن المسطاري عن برنامجه الانتخابي المتمثل في نقطتين:
1- إسقاط النظام البورقيبي وخياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
2- إقامة مجتمع ديمقراطي قومي في تونس.
وطالب مرشح (الجبهة) السلطات التونسية، باحترام النصوص القانونية لدستور البلاد، وإفساح المجال لكل الشعب التونسي للمشاركة في الانتخابات الرئاسية بحيث تشمل التونسيين المقيمين في الخارج، والبالغ عددهم (800) ألف شخص، كما طالب بتأليف لجنة محايدة لمراقبة الانتخابات من قبل جامعة الدول العربية (14).
وصعق الرئيس الحبيب بورقيبة آنذاك من سماع مرشح تونسي محكوم عليه بالإعدام ينافسه في تلك الانتخابات الرئاسية، فما كان رده إلا أن صعّد الهجوم على (الجبهة)، ورفض قبول ترشيح المسطاري بن سعيد الى الانتخابات الرئاسية. وقد ساق بورقيبة اتهامات للجبهة القومية لتحرير تونس، تتمثل في تبعيتها لليبيا، وفي سعيها الى (الوحدة مع ليبيا) (15).
في غضون ذلك شنّت الأجهزة القمعية التونسية حملة اعتقالات واسعة في صفوف أعضاء (الجبهة) في البلاد. وقد تمّ تقديم (33) معتقلا للمحاكمة بتهمة (16)
1- تفجير السفارة الأمريكية ودار البيعة اليهودية ، ومقر الحزب الحاكم.
2- محاولة الاعتداء على رئيس الدولة الحبيب بورقيبة.
3- الانتماء الى تنظيم غير مرخص له.
وصدرت الأحكام بحق المتهمين التي راوحت ما بين عام الى ستة عشر عاما سجنا، وكان من بين المحكومين أحمد مصباح ضو المرغني أحد قياديي الجبهة، والذي قاد عملية قفصة العسكرية عام 1980.
بعد تلك المحاكمة، عزّزت الجبهة القومية التقدمية لتحرير تونس علاقاتها مع ليبيا، حيث تركّز نشاطها في الجماهيرية الليبية،التي كانت تشكّل قاعدة خلفية لها تحمي بها نفسها من هجمة النظام التونسي عليها، خصوصا أن العلاقات بين ليبيا والنظام التونسي آنذاك كانت دائمة التوّتر، بسبب إعلان القذافي محاربته للرجعية العربية. كما كانت للجبهة علاقات مع بعض فصائل المقاومة الفلسطينية باستثناء حركة فتح، التي كان ممثلها في تونس (الحكم بلعاوي) مرتبطا بأجهزة المخابرات التونسية، وكان يتعاون معها ضد فصائل الحركة الوطنية التونسية المعارضة، فضلا عن أنّ فتح ذاتها لها علاقات جيدة مع النظام التونسي. واستقطبت (الجبهة) العديد من العناصر التونسية التي انخرطت مبكرا في صفوف التنظيمات الفلسطينية، وكذلك العمال العاملين في ليبيا، وشكلت منهم ”لجانا ثورية” ، وقامت بتدريبهم عسكريا في معسكرات الجبهة الشعبية القيادة العامة (أحمد جبريل)، قبل أن تستأنف نشاطها العسكري، حيث قادت عملية “انتفاضة عسكرية” في مدينة قفصة في 27 جانفي / يناير 1980، عبر رحلة طويلة انطلقت من بيروت الى روما فطرابلس ، ومن طرابلس الى روما وصولا الى الجزائر.
وقد لعبت أجهزة الاستخبارات الليبية، وجهاز الأمن العسكري الجزائري بقيادة قاصدي مرباح دورا رئيسيا ف الترتب والإعداد اللوجيستيكي لهذه العملية، لتي كان من أبرز قادتها التونسيين أحمد المرغني، وعزالدين الشريف، اللذين قادا الهجوم العسكري على قفصة. ويقول صافي السعيد في كتابه الجديد ”بورقيبة رحيل آخر البايات…”، حول هذا الموضوع، ما يلي: ”بدءا من عام 1975 راودت الجزائريين والليبيين أفكار كثيرة للإطاحة بنويرة رئيس الحكومة الأسبق ونظام بورقيبة. فكانت كل دولة تحاول جذبه إليها، لكن نويرة لم يكن ليضعف لا باتجاه الشرق ولا باتجاه الغرب. ساءت علاقات ليبيا مع مصر بسبب ”كامب ديفيد” فلم تقف تونس الى جانبها، وساءت علاقات الجزائر مع المغرب بسبب الصحراء الغربية فراوحت تونس مكانها بل مالت نحو المغرب. كان الاتفاق الضمني بين بومدين والقذافي تجاه تونس حاصلا في حده الأدنى، وهو أن النظام قد تآكل وصراعاته الداخلية قد تضعف موقفيها، ولكنهما لم يكونا يملكان خطة مشتركة للإطاحة به ولا اتفاقا مشتركا على إقامة نوع من الوفاق على أرض تونس. في تلك اللحظة لاحت فكرة في رؤوس البعض ف العاصمتين الليبية والجزائرية مفادها أن نظام بورقيبة على شفير الحفرة ولا يحتاج إلا ركلة صغيرة لكي يقع في تلك الحفرة. لم يكونا يملكان رجالا داخل الجيش التونسي، كما كانا حذرين من تهمة التدخل واستفزاز الغرب، وخاصة أمريكا التي كانت تبحث عن مدخل للتمدد تجاه ليبيا والجزائر. وفي ذلك الوقت بالضبط بدأ سيناريو ما سوف يعرف بعملية قفصة يتضح للرجال المكلفين في كل من ليبيا والجزائر لمعالجة ملف تونس. كان بو مدين قد وضع فجأة تحت طائلة ذلك المرض الذي سيأخذه من الحياة، حين سافر رئيس مخابراته العسكري قاصدي مرباح الى طرابلس مع رجال القذافي اللمسات الأخيرة للهجوم الذي سيستهدف مدينة قفصة الجنوبية في كانون الثاني 1980. وكانت العملية ستنطلق في صف 1979، ولكنها تأجلت بسبب مرض بومدين، فوقعت في عهد الشاذلي بن جديد الذي لم يكن يعلم بها… وكما أوضح القذافي فيما بعد لإحدى الصحف الأجنبية فإنّ مرباح هو الذي أعدّ لخطة مع بومدين وجاء الى البيت ليطلب المساعدة والمشاركة(17).
ورغم ما أحدثته عملية قفصة العسكرية من صدمة عنيفة هزت أركان السلطة في تونس بخياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذ عجلت برحيل رئيس الحكومة الهادي نويرة من السلطة، ومجيء محمد المزالي الى رئاسة الحكومة في أفريل / نيسان عام 1980، فإنّ الجبهة القومية التقدمية لتحرير تونس خسرت المعركة عسكريا، وبالتالي سياسيا في عملية المواجهة مع النظام.
كانت الخطة تقف عند حدود إحداث صدمة لنظام بورقيبة في إحدى مدنه المهمة التي عرف تقليدا بالتمرد، ولكن الذين اختيروا لتنفيذها من التونسيين،كانوا يعتقدون بأنهم ذاهبون لإعلان بدء الثورة المسلحة، لقد فات أولئك الشبان الغاضبون والمندفعون أنّ ليبيا والجزائر لا تريدان ثورة مسلحة على حدودهما، وكما اعتقدوا أن الإمدادات ستأتيهم حين يتمكنون من السيطرة على مدينة قفصة، فقد توهموا أيضا أنهم كانوا يقومون بعمل شعبي سيسانده ”كل الشعب” حالما يعلن عن نفسه.
وبما أن الجبهة القومية التقدمية لتحرير تونس تمثل تيارا قوميا تقليدا، هو امتداد طبيعي وموضوعي، فكري وسياسي للحركة اليوسفية، فإنها عجزت سياسيا وتاريخيا عن أن تشكل ”بديلا ثوريا حقيقيا”، “لتحرير تونس”، ولا نقيضا للنظام التونسي. وبما أن الأصل (أي الحركة اليوسفية) قد انهزم، فلا بدّ للامتداد الطبيعي الذي تفرّع عنه (أي الجبهة القومية لتحرير تونس) من أن ينهزم أيضا ولو بعد فترة من الزمن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: نشرت هذه الدراسة ضمن الفصل الأول ضمن كتاب “المعارضة التونسية”
(1)- المنجي وارده – جذور الحركة اليوسفية – المجلة التاريخية المغاربية – العدد 71-72 مؤسسة التميمي – زغوان، تونس ماي/ مايو ص (482).
(2)– المرجع السابق عينه (ص 483).
(3)– محمد بن عبود و.د.جاك كاني: مؤتمر المغرب العربي سنة 1947 وبداية نشاط المغرب العربي في القاهرة: عملية ابن عبد الكريم (ص7-30) المجلة التاريخية المغربية عدد 25-26،حزيران 1982،تونس (ص2)
(4)– منجي وارده – مرجع سابق (ص513).
(5)– بلاغ – 17 نوفمبر 1955 عدد 136 (ص1).
(13)– مجلة النشرة ، عدد (17) تاريخ 23/3/1984. انظر المقابلة مع عمارة ضو بن نايل (ص 19-21).