دراساتليبيا

تنمية الثقافة وثقافة التنمية:

 

 

Afficher l'image d'origine

 

سالم العوكلي:

انطلاقا من عزلة العمل الثقافي لدينا وتهميشه من قبل الأداء التخطيطي في مجتمعنا الذي ركز على الكيان المادي أكثر من المعنوي، وأحال مكونات التنمية الشاملة إلى جزر معزولة، الشأن الذي جعل من هذه التنمية ضحية فعل ازدواجي أجهض طموحاتها، عبر انغلاق ساهم في عزلتها وتفريغها من تراكم الخبرة، أو عبر الاستعانة بتجارب وافدة تفتقد إلى الوعي بثقافة المكان وخصوصياته، الأمر الذي أدى إلى فصل تام بين التنمية والثقافة أفقد فكرة التطور هذا التناغم الضروري بينهما، فغدت الثقافة تحلق في فضاء من التنظير والأوهام، والتنمية تسعى على أرض جرداء، وتأتي هذه الورقة كمحاولة لتبيان أهمية البعد الثقافي للتنمية والبعد التنموي للثقافة، حيث سنتطرق في البداية لبعض المفاهيم النظرية لهذه العلاقة الضرورية، ومن ثم لمنطلقات التناغم الممكن بين الثقافة والتنمية، مشيرين إلى نسبية الثقافة التي يؤدي التعميم بشأنها إلى إرباك شامل، مستعينين في هذا المنحى ببعض المراجع والتطبيقات العالمية التي تؤكد من ناحية أهمية الوعي بالخصوصية الثقافية للمجتمع المستهدف في صدد التخطيط لتنميته، وللتأكيد من ناحية أخرى على نسبية الثقافة كمدخل للتنمية، معرجين على البعد الديني والموقف إزاء التراث اللذين يشكلان وجدان وثقافة الناس ونظرتهم إلى الواقع والمستقبل، وانطلاقاً من نظرة مبدئية إلى تاريخنا الحديث سيكون ضرورياً التطرق إلى مفهوم المدينة وأزماتها باعتبارها الوعاء التاريخي لعمليات التنمية والمنتج الدائم لثقافة التقدم ومراكمة الخبرة، وهو الشأن الذي سيحيلنا تلقائياً إلى علاقة التنمية بالديمقراطية ومبدأ إطلاق الحريات السياسية والاقتصادية المختلفة، حيث سنعتمد على تطبيق محلي يتعلق بحرية الاقتصاد كمؤشر هام لهامش الحريات في مجتمعنا ومدى علاقة هذا المؤشر بالعملية التنموية ودخل الفرد، وبعده المتأثر والمؤثر في ثقافة المجتمع، لنخلص في النهاية إلى بعض النقاط الهامة التي نقترح إدراجها ضمن مكونات الوعي، في حالة توخينا الثقافة كمدخل للتنمية.

مفاهيم أولية:

مفهوم التنمية الإنسانية كما ابتكرته نظريات التنمية البشرية العالمية – وعرفته على أنه “مجموع الترتيبات الاجتماعية المعززة للمنافع الإنسانية والقائمة على توسيع الخيارات المتعددة للإنسان من حيث تفعيل قدراته والفرص المتاحة له، اعتبارا من كونه محور تركيز جهود التنمية”، حيث أن هذا المعنى يركز على الإنسان، ويعامل البشر كمدخل فى عملية التنمية.

{مفهوم الثقافة يتنوع في اللغة بحسب المعنى المراد توظيف اللفظ فيه، حيث يرتبط معنى (Culture) بالاستقرار والتحضر المرتبط بالزراعة والتوسـع المدني، وسنتبنى هنا التعريف الذي ورد في بحث د. أم العز الفارسي (السياسة الثقافية.. محاولة لرسم ملامح الحالة الليبية) الذي شاركت به في المؤتمر الوطني الأول للسياسات العامة في ليبيا الذي أقامه مركز البحوث والاستشارات بجامعة قاريونس، حيث توافق على أن الثقافة هي: “اجتماع الأنظمة المادية والروحية التي ابتكرها الإنسان لتحكم سلوكه فيما هو ذاهب إلى الارتقاء بهويته وذاته ونمط حياته، والإعلاء من شأن وجوده في الحياة عبر الانخراط في صيرورة هي الثابت الوحيد في هذه الحياة، وعبر الاحتفاظ بأبنية ثقافية تحملها اللغة إلى الأجيال اللاحقة كي تسكنها وتتولى تعديلها أو إعادة إنتاجها وفق حاجاتها وشروط تطورها}.

ومن خلال هذين المفهومين تتضح العلاقة الجدلية بين التنمية والثقافة كحقلين مشغولين أساساً بتطوير حياة الإنسان ومن ثم المجتمع بأكمله عبر تناغم جوهري بينهما، ولا سبيل لتحقيق ازدهار ورفاه اجتماعي عبر المساهمة الفاعلة والمنتجة ضمن سياق الحياة الإنسانية برمتها إلا بهما، الشيء الذي أفرز مفهوماً حديثا في الأدبيات الاجتماعية والسياسية أخذ قدراً كبيراً من التداول في العقود الأخيرة ألا وهو الثقافة التنموية.

– التنمية الثقافية مفهومٌ مبتكرٌ من مفاهيم العمل الاجتماعي في مدلولاته الشاملة التي تتسع لشتى مناشط الحياة الإنسانية، والتي تشمل مختلف مناحي الجهد البشري، اقترن ظهورُه بحركة اليقظة الفكرية الحديثة، وتبلور بصورة واضحة، مع تطوّر رؤية المجتمع الدولي إلى رسالة الثقافة في الحياة، ودورها في بناء المجتمعات المعاصرة، حتى صار هذا المفهوم اليومَ، من قواعد تقدّم الشعوب، ومن ثوابت السياسات الثقافية والاجتماعية في العالم الحديث.

– إنَّ التنمية الثقافية، هي المعادلُ الموضوعيُّ لتنمية المجتمع ثقافياً، ولتنمية الثقافة اجتماعياً واقتصادياً، لتكون الثقافة عنصراً فاعلاً في تطوير آليات النمو، ولتدعيم المجهودات التي تُسخر للنهوض بمستويات الحياة، ولترقية الإنسان، وللرفع من قدراته، ولتحسين أوضاعه في المجتمع.

ولذلك، فإنّ للتنمية الثقافية مفهوماً واسعاً، يدخل في نطاق التنمية الشاملة التي تقوم على ثلاث قواعدَ رئيسَة:

1- إقامة العدل، في مدلولاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

2- تبجيل الإنسان والتأكيد على حقوقه وحفظها، وتعهده بالتنشئة الصالحة والرعاية المتكاملة.

3- الأخذ بمناهج العلم في التفكير والتخطيط لطرق التقدم، ولوسائل التطور، ولأساليب الرقيّ في المجالات كلِّها.

فالتنمية بهذا الاعتبار، عمليةٌ مترابطةُ الحلقات، مطّردةُ المراحل، وذلك للتداخل القائم بين مختلف العناصر التي تتكوَّن منها عمليةُ البناء الشامل للمجتمع.

وفي هذا السياق، فإنَّ التنمية الثقافية قاعدة متينة من أسس التنمية الشاملة المستمرة؛ لا تقوم إلاَّ بها، ولا تؤدي دورها إلاَّ من خلالها، ولا تنتج إلاّ إذا كانت الثقافة مثمرةً منتجة.

ولذلك، فإنّ التنمية الثقافية لا تقوم من فراغ، ولا تتحقق طفرةً، وإنما هي نتاج تفاعل مجموعة من العوامل يكمل بعضها بعضاً، إذا توفرت بالقدر اللازم، وتكاملت بالصورة المطلوبة، أدت إلى بروز العناصر الفاعلة في تحقيق التنمية الثقافية على النحو الذي يتناسب مع الجوانب الأخرى للتنمية.

تنمية الثقافة أو التنمية الثقافية:

التنمية الثقافية تبدأ من تنمية الثقافة أساساً، وصولاً إلى تطويرها، وتحديثها، وبلورتها، حتى تكون ثقافة هادفةً، بانيةً، للإنسان وللمجتمع، أولاً وقبل كل شيء، وذلك من منطلق تحديد دقيقٍ لماهية الثقافة، ورسمٍ موسَّعٍ لمعالم مجالها الحيوي.

– لمّا كانت الثقافة هي مجمل النشاط الإنساني في حقول الإبداع الفكري والأدبي والفني، على تعدد أوجه هذا الإبداع، وتَشَعُّب نواحي هذه الحقول، وكان العمل الثقافي عموماً، شديد الارتباط بالمناخ الاجتماعي وبالوضع الاقتصادي العام، فإن قيام التنمية الثقافية، على النحو الذي يحقّق التقدم الثقافي والازدهار الفكري ويكفل تطور المجتمع، هو أمر مرهون بإيجاد الدوافع الموضوعية والحوافز الذاتية لدى الأفراد والجماعات، وعلى المستويين الرسمي والشعبي، والتي من شأنها أن تطلق القدرات، وتفجّر المواهب، وتحرّك الملكات للإبداع وللابتكار وللإنتاج الفكري الذي يُنعش الحياة، ويمتّع الإنسان، ويساهم مساهمةً فعالةً، في تطوّر المجتمع فكرياً وثقافياً، وفي رقيّه اجتماعياً وحضارياً.

منطلقات التنمية الثقافية:

ولهذه الأهمية القصوى التي تكتسبها التنمية الثقافية، فإنّ بناء المجتمع السويّ، الذي يحقق الإنسان في ظله ذاته ووجوده، ويؤدّي رسالته في الحياة ويبدع وينتج ويبني أسس الحياة الآمنة الكريمة، يتوقف على مدى التنمية الثقافية، وعلى مستواها وحجمها، وعلى مقدار تأثيرها في المجتمع.

– لابد أيضاً من الإشارة إلى الإستراتيجية الوطنية وهو المشروع المستقبلي للقوى الوطنية والتي تدخل ضمنه تنمية الأفراد ضمن الاختصاصات والقدرات الذاتية، واعتبار الثقافة الوطنية هي جزء من إستراتيجية العمل الوطني. ويأتي ذلك من خلال دعم البرامج التي تسهم في تطوير المؤسسات السياحية والثقافية والإعلامية والدينية ودعم المؤسسات غير الحكومية.

وما يشير إلى فشل أكثر الحكومات هو تهميش الثقافة الوطنية ودعم ثقافة التسلط وأدلجة الوسائل الإعلامية والمؤسسات غير الحكومية، مما يساعد في قتل الجانب الوطني للفرد باتجاه المصالح الضيقة.

– التنمية الثقافية هي إحدى المرتكزات الأساسية في رفع وتطوير الثقافة التنموية التي تعتمد على التكنوقراط والكفاءات العلمية والاختصاصات الفنية والتربوية. لذلك تعتبر العلاقة جدلية بين الحالتين وتستلزم المتابعة الدقيقة للمتغيرات وفاعلية المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني، ويرى المحللون في هذا المجال أن المعايير الأساسية في التنمية هي الترابط الوثيق بين السلطات الثلاث واستكمالها بدور فاعل للسلطة الرابعة.

وبالتالي سيكون للإعلام والصحافة أكثر من دور لأنها مرة تعمل كمؤسسات رقابية ومرة أخرى كمساهم في دور تنموي، وبنسبة أعلى سيدخل القطاعات الثلاثة ليكون المفتاح الرابط لها، وسيكون الإعلام مزدوج التأثير، بحيث مرة يكون تصاعدياً، وهذا يعني نقل الحقيقة للسلطات لكي تساهم في معالجة الموقف، بينما يكون التأثير تنازلياً، أي يخترق السلطات الثلاث ويؤثر في عملية بناء الفرد والمجتمع. أما المعايير الأساسية للتنمية فهي تتمثل في الأداءات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والتنمية الثقافية، وتعتبر هذه المعايير هي المورد الطبيعي لدعم البرامج الإستراتيجية، لذا ستكون الافتراضات واقعية ومحتملة وبخيال واسع ومتطور. وبالتالي فإن هذه المعايير تحتاج إلى توازنات مشتركة ترتبط بالعامل الزمني والمكاني للتركيبة الاجتماعية وخصوبة البيئة وواقعية الرؤية، ولاستدامة هذه الأدوار لابد من تطوير المهارات الشخصية وتوفير المستلزمات الخدمية وتعزيز قانون حماية الفرد.

النسبية الثقافية:

برغم أن المختصين في الأنثروبولوجيا الثقافية قد شاركوا في التخطيط لبعض المشاريع التنموية، لكن هذه المشاركة كانت تقتصر في العادة على التأكيد على أن الحقائق الثقافية ظاهرة بشكل كاف في التصميم، ونادرا ما كانت لتشجيع التغيير الثقافي. ويُقر العديد من علماء الأنثروبولوجيا، وعلماء الاجتماع، بالنسبية الثقافية، وهي النظرية التي تنص على أنه يتوجب على كل مجتمع أو ثقافة أن تُحدد قيمها وأن لا يوجد بين الثقافات ما هو أفضل أو أسوأ، بل هناك اختلاف فيما بينها. ويمكن للمرء أن يتصور رد الفعل المريع على تعليق أدلى به ديفيد لاندس، كاتب (ثروة وفقر الأمم) في مؤتمر للبنك الدولي سنة 2000: هناك ثقافات أسميها “سامة” تُعيق الذين يتمسكون بها”.

– تتفق النسبية الثقافية بشكل رائع جدا مع ميل العديد من الاقتصاديين إلى افتراض أن الناس سواسية في كل أنحاء العالم، وكما كتب وليم إيسترلي، عالم الاقتصاد في البنك الدولي سابقا ومؤلف كتاب (عبء الرجل الأبيض): “ربما هناك الكثير مما يمكن قوله حول وجهة نظر الاقتصادي قديمة النمط على أن الناس سواسية في كل مكان وأنهم سيستجيبون للفرص الاقتصادية والحوافز الصحيحتين. ” فكيف إذن ـ يستطرد إيسترلي ـ يمكن أن نفسر سبب الأداء الأفضل لبعض الأقليات العرقية أو الدينية مقارنة بالأغلبية العظمى للسكان في البلدان متعددة الثقافات، حيث تكون الفرص الاقتصادية والحوافز متاحة للجميع، كما هو الحال عند الأقليات الصينية في إندونيسيا والفلبين وتايلاند وغيرها من الأماكن التي هاجر إليها الصينيون، بما فيها الولايات المتحدة؟ لماذا نجح “إجماع واشنطن” بشكل جيد في الهند وضعف في أمريكا اللاتينية (ما عدا تشيلي)، حيث بدت الاشتراكية، بل وحتى الاشتراكية الاستبدادية في حالة كوبا وفنزويلا، حية ونشطة؟ من المحتمل أن لا تقدم العوامل الثقافية تفسيرا كاملا، ولكن من المؤكد أنها ذات صلة بالموضوع.

كان ألن غرينسبان على صواب عندما قال في أعقاب انهيار الاقتصاد الروسي في أواخر التسعينيات: “كنت أعتقد أن الرأسمالية هي طبيعة البشر. ولكنها ليست على الإطلاق. إنها الثقافة.”

– لقد واجه بعض الاقتصاديين الثقافة ووجدوها مفيدة في فهم التنمية الاقتصادية. ربما تأتي معظم البيانات الواضحة والرئيسية بقلم ديفيد لاندس: “كان ماكس ويبر على صواب. فإذا تعلمنا شيئا من تاريخ التنمية الاقتصادية فهو أن الثقافة هي المعنية تقريبا”. وبالتوسع في فكرة لاندس الرئيسية حول الموضوع، كتب الاقتصادي الياباني يوشيهارا كيونيو “إن أحد أسباب تطور اليابان هو أنها تملك ثقافة مناسبة لذلك. فلقد علق اليابانيون أهمية على: المساعي المادية؛ العمل الجاد؛ الادخار للمستقبل؛ الاستثمار في التعليم؛ وقيم المجتمع”.

وحتى جيفري ساكس، النزّاع إلى الشك في الثقافة، يعترف بتأثيرها. ففي جوهر فصل كتابه في: الثقافة مهمة، يقول: “حتى عندما تحاول الحكومات إحراز التقدم لبلدانها، قد تُشكل البيئة الثقافية عقبة أمام التنمية، فعلى سبيل المثال، قد تمنع المعايير الثقافية أو الدينية دور المرأة، تاركة نصف السكان دون حقوق اقتصادية أو سياسية…”.

وقد أجرى عالم الاقتصاد الإيطالي غيدو تابيلليني مؤخرا دراسة حول مقارنة الأداء الاقتصادي في المناطق الأوروبية باستخدام بيانات من مسح القيم العالمية بشأن الثقة والتحكم في مصير الفرد واحترام الآخرين (ويبين أن ثلاثتها مرتبطة بشكل إيجابي مع التنمية الاقتصادية) ويتلخص استنتاجه في:

“هذه السمات الثقافية ترتبط ارتباطا وثيقا ليس فقط بالتنمية الاقتصادية للمناطق الأوروبية فحسب، بل إنها ترتبط أيضا بالتنمية الاقتصادية والنتائج المؤسسية في عينة واسعة من الدول…وبذلك، يعني هذا التحليل أنه لا يوجد سيادة للمؤسسات الرسمية على الثقافة، بل على العكس، فمن المرجح أن يتفاعل كلاهما وأن يشكلا معا الوظيفة الفعلية لمؤسسات العالم الحقيقي، وأن يؤثرا على الحوافز وسلوك العوامل الاقتصادية والسياسية”.

الثقافة مهمة:

ثمة أسئلة جوهرية يمكن من خلالها سبر تلك العلاقة السرية بين الثقافة التي تحدد السلوك ومن ثم السلوك الذي ينتج التنمية ويرعاها، من هذا المنطلق يمكن الإشارة بإيجاز يفيد توجه هذه الورقة إلى الأسئلة الهامة التي طرحها الباحث لورنس إي هاريسون في بحثه المطول (الثقافة والتنمية الاقتصادية) المنشور في موقع مصباح الحرية، والذي يحاول من خلال الإجابة عن تلك الأسئلة تأكيد أهمية الثقافة المجتمعية بمعناها الشامل كمدخل لأية تنمية تسعى إلى توافق مكونات ذلك المجتمع التنموية المختلفة: ما هو الشيء الموجود في الثقافة والذي يؤثر في السلوكيات التي تؤثر بدورها في الأداء السياسي والاجتماعي والاقتصادي؟ ما هي مؤسسات وأدوات تحول وتغيّر الثقافة؟ ماذا يمكننا أن نتعلم عن الثقافة والتغير الثقافي من دراسات حالات النجاح والفشل؟

تحمل نتائج المشروع ـ كما يخلص الباحث ـ حكمة دانيال باتريك موينيهان التي تُذكرغالبا: “إن الحقيقة المحافظة المركزية هي أن الثقافة هي التي تحدد نجاح أي مجتمع وليس السياسة، وأنه باستطاعة السياسة أن تُغير ثقافة ما وإنقاذها من نفسها”.  

إن الإجابة على هذه الأسئلة تكمن في دراسة تصنيفية لخمسة وعشرين عاملا من العوامل التي يُنظر إليها بطريقة مختلفة جدا في الثقافات التي تميل إلى التقدم والثقافات التي تقاوم التقدم. إن المخطِّط الرئيسي لها هو العالم والصحافي الأرجنتيني ماريانو غروندونا، الذي اعتبر الولايات المتحدة نموذجا للثقافات الميالة إلى التقدم، والأرجنتين، وبالتالي أمريكا اللاتينية، نموذجا للثقافات المقاومة للتقدم. قُسِّمت العوامل الخمسة والعشرون إلى أربع مجموعات: النظرة العالمية، والقيم، والفضائل، والسلوك الاقتصادي، والسلوك الاجتماعي. هذه الأجزاء ليست مفصولة كليا، فالعوامل التي تؤثر على الأداء الاقتصادي موجودة فيها جميعا. فعلى سبيل المثال، يتناقض عامل النظرة العالمية “للمصير” بين الثقافات، {“يمكنني التحكم بقدري” (الثقافات الميّالة للتقدم) و”القدر” (الثقافات المقاومة للتقدم)}، مع وجود معاني متضمنة آثارا جسيمة على الريادية، أحد العوامل الرئيسية في مجموعة السلوك الاقتصادي. وتتضمن المجموعة ما يلي:

العمل/الإنجاز: تناقض بين “الحياة من أجل العمل” الميالة للتقدم، و”العمل من أجل الحياة” المقاومة للتقدم.

النزوع للمغامرة: معتدل في الثقافات الميالة للتقدم، وضعيف في الثقافات المقاومة للتقدم .

المنافسة: تؤدي إلى التفوق، مقابل الخطر على المساواة والامتياز.

الإبداع: الثقافات الميالة للتقدم منفتحة على الإبداع وسريعة التكيّف معه، في حين أن الثقافات المقاومة للتقدم مفعمة بالشك وبطيئة في التكيّف.

– التقدم: الجدارة مقابل روابط الأسرة.

تطبيقات عن الثقافة كمدخل للتنمية:

يشتمل السؤال الثاني المتعلق بمؤسسات وأدوات تحول الثقافة على ممارسات تربية الأطفال وجوانب عديدة من التعليم والدين ووسائل الإعلام والقيادة السياسية ومشاريع التنمية. وقد يكون الدين الأكثر أهمية فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية. ويذكر الباحث لورنس إي هاريسون أنه قام مع مجموعة من البحاث بتصنيف وتجميع 117 دولة حسب الدين السائد، وتم تسجيل أدائها في عشرة مؤشرات للتقدم (نعرض هنا نتائجه باختصار)، يعكس اثنان منها مباشرة الازدهار (مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية، الذي يتضمن الناتج المحلي الإجمالي للفرد فضلا عن ثلاثة عوامل اجتماعية؛ ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي للبنك الدولي المحسوب على أساس تعادل القوة الشرائية). بعض المؤشرات الأخرى لها علاقة أيضا، مثل الثقة والفساد وتوزيع الدخل.

تؤكد البيانات بشدة صحة فرضية ماكس ويبر الواردة في كتاب: الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية: إن أداء الدول البروتستانتية أفضل من تلك الكاثوليكية في خلق الرخاء الاقتصادي والازدهار. ينخفض المتوسط لدى الدول الكاثوليكية نتيجة بطء التنمية في أمريكا اللاتينية، ولكن حتى عندما يتم اعتبار مجتمعات العالم الأول الديمقراطية الرأسمالية، فإن أداء الدول البروتستانتية أفضل بكثير من أداء الدول الكاثوليكية فيما يتعلق بالازدهار والثقة والفساد.

وبشكل أعم، فإن تحليل الأديان يشير إلى أن أداء المجتمعات التي تعتنق الديانات البروتستانتية واليهودية والكونفيوشية أفضل من أداء المجتمعات المسلمة والكاثوليكية والمسيحية الأرثوذكسية لأنها تشترك في أنماط القيم الخاصة بالسلوك الاقتصادي الذي يميل إلى التقدم، في حين أن الأديان المتباطئة تميل نحو القيم المقاومة للتقدم. ويرمز التناقض المستمر للكنيسة الكاثوليكية نحو اقتصاد السوق إلى هذا الانقسام، وهي قضية ـ كما يشير هاريسون ـ تم تأكيدها من قبل مايكل نوفاك في كتابه: الأخلاق الكاثوليكية وروح الرأسمالية. ويستدرك هاريسون قائلاً: ولكن الدين ليس هو المصدر الوحيد للسلوك الاقتصادي الذي يميل إلى التقدم: فأهل الباسك شديدو التمسك بالكاثوليكية وناجحون في الأعمال التجارية الريادية؛ وكذلك الأمر بالنسبة إلى تشيلي التي تتفاخر بأن لديها أنجح أداء اقتصادي مستدام في أمريكا اللاتينية، فهي شديدة التمسك بالكاثوليكية وهي الدولة التي بها أكبر نسبة من السكان الذين ينحدرون عن الباسك في أمريكا اللاتينية.

إن ما سبق ذكره يقترح وجود ثقافة عالمية للتقدم: حيث تخلق نفس قيم السلوك الاقتصادي، أيا كان أصلها، الازدهار في خلفيات جغرافية/مناخية وسياسية ومؤسسية وبالطبع ثقافية مختلفة على نطاق واسع. فعلى حد علمنا ـ يقول هاريسون ـ لا علاقة للجينات بالثقافة، ففي حين أن التغير الثقافي ليس مقترحا بسيطا ولا سهلا، فهو يحدث بشكل دائم في جميع أنحاء العالم، ولا يوجد سبب يستدعي أن تكون “قيم التقدم العالمي” بعيدة المنال لأي مجتمع إنساني.

الدروس المستقاة من دراسة الحالة: من بين السبع والعشرين دراسة حالة، هناك عشر قصص نجاح اقتصادي: الأربع دول التي تتبع الكونفيوشية وهي الصين واليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية؛ الهند؛ تشيلي؛ وأربع مجتمعات غربية: أيرلندا ومقاطعة كيبيك وأسبانيا والسويد. وبينما تجمع الدول العشر عناصر موينيهان في الحقيقة المحافظة المركزية (التي تسيطر عليها الثقافة) والحقيقة الليبرالية المركزية (التي تهيمن عليها السياسة والسياسات)، فإن التقدم في الدول الأربعة التي تعتنق الكونفيوشية وتشيلي والسويد، في رأيي، يعود أساسا إلى الثقافة الموجودة من قبل، بينما التقدم في أيرلندا وأسبانيا ومقاطعة كيبيك يرجع أساسا إلى السياسة والسياسات التي تُشجع على التغير الثقافي. أما الهند فهي حالة وسيطة تتطلب المزيد من الدراسة.

شرق آسيا: تشترك الدول “الكونفيوشية” (وبشكل أكثر دقة، الدول التي تأثرت بشكل كبير بالثقافة الصينية، التى تشمل بالإضافة إلى الكونفيوشية كلا من التاوية والبوذية وعبادات الأسلاف القديمة) جوهريا في الثقافة العالمية للتقدم: فالتعليم والإنجاز وأخلاقيات العمل والجدارة والتدبير كلها موضع تقدير واحترام في مجتمعات شرق آسيا. ويناقض نجاحها الاقتصادي تحليل ويبر في ديانة الصين الذي يؤكد فيه أنه من غير المحتمل حدوث تطور رأسمالي سريع وكبير في الصين بسبب عدم وجود أي شيء يماثل “التوتر” الكالفيني الناجم عن عدم اليقين من كونها “المختارة”. ويعزو كثير من المراقبين ركود اقتصادات شرق آسيا (باستثناء اليابان) في منتصف القرن العشرين إلى الكونفيوشية، وخصوصا الدور المؤثر الذي أدّاه أدباء الماندارين (ماو نموذج على ذلك) وتدني المكانة التي توليها للنشاط الاقتصادي في النظام الكونفيوشي. وكان التشجيع من قبل القيادة السياسية هو الأمر الضروري لإطلاق قوى التعليم والإنجاز والجدارة والتدبير الكامنة لأداء سحرها الاقتصادي، وفي حالة كوريا الجنوبية وتايوان، كانت المخاوف الأمنية هي العامل المحفز. لقد كان تصريح دنغ زياو بينغ سنة 1978 “إن الاستثراء أمر مجيد”، العامل وراء إطلاق السحر في الصين، والعلامة الواضحة لنهاية ثورة ماو الماركسية. فعندما يوجد التشجيع وتوجد الحوافز، تدفع قيم التقدم العالمية عجلة المعجزات الاقتصادية، مثلما فعلت عندما قرر زعماء الميجي في اليابان سنة 1868 اللحاق بركب الغرب.

تشيلي: يظهر اختلاف تشيلي عن غيرها من بلدان أمريكا اللاتينية جليا من خلال تنفيذها الفعال لسياسات “إجماع واشنطن” وهي الدولة الوحيدة في أمريكا اللاتينية التي قامت بذلك. كما ويبدو وضعها الفريد في أمريكا اللاتينية من تصنيف مؤشر الفساد لمنظمة الشفافية العالمية لسنة 2005: حيث تعادلت مع اليابان في المرتبة 21، وتأتي الأوروغواي، وهي الدولة الأمريكية اللاتينية التي تلي تشيلي، في المرتبة 32، وكوستاريكا والسلفادور في المرتبة 51. وتشتهر قوات الشرطة الوطنية لتشيلي، المعروفة باسم كارابينيروس، بالمهنية والنزاهة خلافا للسلوك الجنائي غالبا للشرطة في بلدان أمريكا اللاتينية الأخرى.

تتمتع تشيلي أيضا بتقاليد غير مألوفة في الريادية. ففي العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، لوحظت مهارة التشيليين في المخروط الجنوبي في الأعمال التجارية، كما قدم التشيليون دفعة قوية لنمو الاقتصاد الأرجنتيني فضلا عن اقتصاد بلادهم. بينما ساهمت العوامل الأخرى، بما فيها جغرافية ومناخ تشيلي المشابه جدا لكاليفورنيا، في موهبة الأعمال الاقتصادية لتشيلي، فمما لا شك فيه أن التأثير غير المتناسب للباسك كان مصدرا هاما. لقد لعب الاستثمار الأجنبي دورا رئيسيا في التنمية الاقتصادية لتشيلي، وخاصة في مجال تعدين النحاس. ولكن استجابة الأعمال للسياسات الاقتصادية المنفتحة التي تم وضعها خلال فترة ديكتاتورية بينوشيه والمحافظة على استمراريتها من قبل الحكومات المنتخبة منذ سنة 1990، جاءت أساسا من التشيليين.

السويد: بقياس العشرة مؤشرات من مؤشرات التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بدءا من مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية إلى القيم العالمية لمسح البيانات حول الثقة، يتبين أن دول الشمال هي بطلة التقدم(7). إن جميع دول الشمال الخمسة، فنلندا والسويد والنرويج والدنمارك وأيسلندا، ذات خلفية لوثرية، وإن كان القلة، في يومنا هذا، هم من الملتزمين بالذهاب إلى الكنيسة. إن اللوثرية هي مصدر الكثير من المنظومة القيمية لدول الشمال والتي أنتجت مستويات تعليمية عالية وبرامج رعاية شاملة ومنتشرة وجودة أعمال مرتفعة متمثلة في نوكيا الفنلندية وفولفو وساب وآيكيا السويدية. ويبدو التوافق بين الكفاءة الاقتصادية والإنفاق الاجتماعي في سياق دول الشمال من خلال تقديرات سنة 2006 للمنتدى الاقتصادي العالمي. ولقد دونت مجلة الإيكونوميست مؤخرا، “أن ارتفاع الضرائب وشبكات الأمان السخية للرعاية لا تُقوض الاقتصادات المنافسة… إن الاقتصادات الإسكندنافية تقع في مرتبات عليا…(8)” (احتلت السويد المرتبة الثانية في العالم).

يُشير النجاح الاقتصادي لمجتمعات دول الشمال، والمجتمعات البروتستانتية بشكل عام، بقوة إلى أن تركيز ويبر على “التوتر” الكالفيني كان ضيقا جدا وأن المزايا البروتستانتية حول التعليم والإنجاز وأخلاقيات العمل والجدارة والتدبير والأمانة -ثقافة تقدم عالمية- هي القوة الحقيقية وراء روح الرأسمالية.

أيرلندا وأسبانيا: إن لـ”المعجزتين” الاقتصاديتين الأيرلندية والأسبانية أمورا عديدة مشتركة. وكان كلاهما، وإلى حد بعيد، نتيجة لانفتاح السياسات الاقتصادية المنغلقة في ذلك الحين. ولقد لعب الاستثمار الأجنبي، وفي حالة أسبانيا تحديدا، والسياحة، أدوارا رئيسية، معوضين، في البداية، النقص المحلي في رأس المال والريادية. استفادت الدولتان من برامج المساعدة للاتحاد الأوروبي بشكل جيد. وشدد كلاهما على التعليم، ففي حالة أيرلندا، تحولت في مدى 40 عاما من أقل دول أوروبا تعليما إلى واحدة من أكثرها. وانخفض نفوذ الكنيسة الكاثوليكية انخفاضا حادا لدى الدولتين إلى درجة أصبح يسمع المرء فيها عبارة “فترة ما بعد الكاثوليكية”. وتم خلال هذه العملية تحول الثقافات في كلتا الدولتين.

كيبيك: كانت كيبيك، قبل “الثورة الهادئة” (1960-75)، متخلفة مقارنة مع سائر المقاطعات الكندية الأخرى: فكانت أكثر فقرا وأقل تصنيعا وأقل تعليما وأقل معافاة صحية وأقل ديمقراطية. أما اليوم، فإن مؤشرات التقدم في كيبيك مشابهة لبقية مقاطعات كندا، وفي بعض النواحي، مثل معدل التسرب من المدارس الثانوية، هي الأفضل في كندا. فما الذي حدث لتحقيق هذا التحول؟ يختصر هاريسون بعض العوامل التي أدت إلى هذه النقلات موجزة فيما يلي:

– استخدام الوطنية الشاملة لتعزيز الوحدة والجهد والتضحية

– عملية “إزالة تأثير الكهنة” والتي تم من خلالها تخفيض نفوذ الكنيسة بشكل كبير، وخاصة في التعليم، خلال فترة خمس سنوات (1961-1966). وكما هو الحال في أيرلندا وأسبانيا، يطلق أحيانا على كيبيك “فترة ما بعد الكاثوليكية”

– تخصيص موارد ضخمة للتعليم

– تعزيز المساواة بين الجنسين، خاصة في أماكن العمل

– إقامة دولة عصرية مبدعة تصدرت التنمية بدءا من سيرك دي سولاي إلى الصناعات البيوتكنولوجية المتقدمة. ولقد كان هذا النهج “المشترك” الذي ضم التجارة والعمل والمهن المختلفة… إلخ، بالاشتراك مع الحكومة لمناقشة السياسات ناجحا بشكل عام

– جهود رامية إلى الحد من اللامساواة بقيادة الدولة.

والأمر الذي يدعو للسخرية، أن لمحة القيم لكيبيك قد تقاربت مع تلك لكندا الناطقة باللغة الإنكليزية بالتزامن مع نمو الشعور نحو الاستقلال في الإقليم.

الهند: قد يبدو الأمر مفاجئا للعديد، حيث أنني قد تفاجأت بذلك، يقول هاريسون: أن الهند تحت حكم المغول، وعلى الأقل وفقا لبيانات أنجوس ماديسون، استحوذت على ما يزيد عن العشرين بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في أوائل القرن الثامن عشر، بسبب إنتاج النسيج والمنتوجات الزراعية أساسا(9). تؤيد هذه الحقيقة مع النجاح الاقتصادي لكثير من المغتربين الهنود بمن فيهم أولئك الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة،: لقد أنتج فتح الاقتصاد الهندي في أوائل التسعينيات استجابة مماثلة لتلك التي أصدرتها عبارة “إن الاستثراء أمر مجيد” في الصين.

نحن بحاجة إلى تطوير فهم أفضل للسياق الثقافي للمعجزة الهندية. الهند بلد يشمل العديد من المجموعات العرقية والدينية، فعلى سبيل المثال، الهند ثاني أكبر بلد مسلم من حيث عدد السكان (بعد إندونيسيا).

من هي المجموعات التي شاركت بشكل رئيسي في هذه الطفرة الاقتصادية واستفادت منها؟

ما هو الأثر المترتب على غالبية عناصر المجتمع التي لا تشارك مباشرة في القطاعات المحدثة؟

ما هو التأثير على المرأة، التي يؤكد ثانوية دورها في الهند الحقيقة أن أكثر من خمسين في المائة من النساء الهنديات أميات؟ هذه بعض من العديد من الأسئلة التي أثارتها “معجزة” الهند الابتدائية.

المصدر : مجلة عراجين 8 ،( 1/2) / libyaforum.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق