تحاليلتونس

استئناف المشروع الإصلاحي في تونس

سمير حمدي ­:

 

عرفت تونس الحديثة مبكراً حركةً إصلاحية رائدة، جسّدت رغبةً كبيرة في التحديث وبناء أسس دولةٍ أكثر تقدماً، وهو ما عبرت عنه شخصياتٌ مهمة في القرن التاسع عشر، أمثال أحمد بن أبي الضياف وخير الدين التونسي والشيخ أحمد قابادو، وصولاً إلى قادة حركة الشباب التونسي والشيخ عبد العزيز الثعالبي في مطلع القرن العشرين، وقد شكّل هؤلاء الروّاد أسس ما يمكن تسميته الإسلام الليبرالي في تونس، حيث كان واضحاً مدى الرغبة التي تحكمهم في تقديم مشروع تحديثيٍّ، يجمع بين الإسلام في أسسه العامة والمبادئ العامة لدولة الحقوق والحريات التي تأثر هؤلاء بنموذجها الأوروبي، خصوصاً بالتركيز على الإصلاح السياسي، من خلال مفاهيم العدل والشورى، ورفض الحكم المطلق، والتأكيد على أولوية وضع دستورٍ يحفظ الحقوق، ويؤكد على معاني المواطنة.

ويورد ابن أبي الضياف، في مقدمة كتابه “الإتحاف”، حديثا عن أنماط الحكم المختلفة، أنها لا تخرج عن ثلاثة “الملك المطلق والملك الجمهوري والملك المقيد بقانون شرعي أو عقلي أو سياسي”، وهو ينتصر للشكل الأخير، لأن الممالك “لا تكون على نهج الاستقامة، إلا إذا كانت الدولة طالبة ومطلوبة”، و”الدولة المقيدة بقانون، طالبة لما لها من الحقوق الملكية، ومطلوبة بما عليها من الحقوق القانونية”، وهو ما يتفق مع التوجه الذي دافع عنه الوزير المصلح خير الدين، عندما أعلن، في كتابه “أقوم المسالك”، أن الدول الأوروبية تخلصت من الاستبداد، وسارت في نهج الحريات، وهو أمر لم يتحقق لها إلا عندما “نصب الأروباويون المجالس وحرّروا المطابع”، معتبرا أن الفساد مستشر في الدول الإسلامية نتيجة الاستبداد، لأن “إطلاق أيدي الملوك مجلبةٌ للظلم على اختلاف أنواعه، كما هو واقع اليوم في بعض ممالك الإسلام”. ومن هنا، فإن باب التقدم، بل وضمان الاستقلال، لا يكون إلا عبر إطلاق الحريات وضمان العدل، “ثم إن العدل والحرية يجب أن يوضع لهما من النظم ما يضمن وجودهما ودوامهما”، ولا يكون ذلك بغير المجالس النيابية المنتخبة من الشعب.

استمر هذا التوجه العام المنادي بالحريات، وبالتأسيس لدولة المواطنة، حتى بعد انسداد أفق التجربة  الإصلاحية التي قادها خير الدين التونسي، وسقوط تونس أرضاً وحكماً تحت هيمنة الاحتلال، وهو ما تجسّد في مطالب النخب التونسية في مطلع القرن العشرين، خصوصاً لدى عبد العزيز الثعالبي مؤسس حزب الدستور، غير أن ما جرى بعد الاستقلال كان نقيضاً لهذا المشروع العام القائم على فكرة الحريات والقانون، لتصبح دولة ما بعد الاستقلال مرتهنةً لحكم الحزب الواحد والسلطة المطلقة لرئيس الجمهورية الذي يتصرّف بشكلٍ لا يختلف عما سماه ابن أبي الضياف الملك المطلق. واليوم، وبعد نجاح الثورة التونسية سنة 2011، هل من فرصةٍ لإعادة استئناف المشروع الإصلاحي التونسي، في مبادئه الأولى التي تقوم على الحرية والمواطنة؟

يرى المتأمل في المشهد السياسي التونسي غلبة السجال السياسي عليه، وغربة المشروع الإصلاحي، في ظل محاولة بعضهم فرض مشاريع هي، في واقعها، امتداد لنماذج سلطوية سابقة، مثل حديث بعضهم عن إحياء البورقيبية، على الرغم من أن بورقيبة لم يكن ديمقراطياً، فهو وعلى الرغم من علاقته الوثيقة بالأجواء الفكرية الفرنسية، لم يتمثل جيداً النموذج الليبرالي، بقدر تركيزه على عملية التحديث القسري اجتماعياً، من دون التركيز على إصلاحٍ سياسيٍّ حقيقي، يقطع مع أشكال الحكم المطلق الذي قام بتكريسه، طوال سنوات حكمه التي استمرت ثلاثين سنة، وهو المسار نفسه الذي تحرّك ضمنه زين العابدين بن علي، وزاد عليه من خلال تحويله الاستبداد مؤسسةً تحميها ترسانةٌ من القوانين. وبعد سقوطه من رأس هرم الدولة، لم تسع القوى السياسية التونسية إلى الاستفادة من اللحظة التاريخية لإعادة التأسيس للمشروع الإصلاحي، بقدر ما سعت إلى استعادة صراعات إيديولوجية مزمنة، والمكوث ضمن مربعاتٍ فكريةٍ، لا تستسيغ الليبرالية منهجاً من حيث الفكر، أعني ليبراليةً حقيقيةً، تؤسس للتعددية والاعتراف بالآخر، فجماعات اليسار التونسي ظلت تجترّ تصوراتها العقيمة التي تشيطن الفكر الليبرالي. وتصوّر التيار الإسلامي وهلةً أنه بصدد مراكمة موروثه الحركي، ولولا حصول نوعٍ من المصالحة التاريخية بينه وبين القوى الدستورية، سليلة الحكم البورقيبي، لما استمر الوفاق لتحقيق انتقال ديمقراطي ممكن.

ينبغي لغالبية المشاريع السياسية التونسية، متى أرادت النجاح، أن تستعيد روح الحركة الإصلاحية التونسية التي سعت الى تأسيس دولة الحقوق والحريات، بعيداً عن الأدلجة المفرطة، أو الشعارات المبالغ فيها حول التنظير لأيديولوجيا هجينة، تحت مسمى البورقيبية، أو ليسراويةٍ طفوليةٍ، تبالغ في العلمنة، ويسكنها هوس الإسلاموفوبيا. فالأحفاد، في منحاهم المعاصر، يبدون أقل وعياً من الأجداد، في قضايا الهوية، في علاقتها بالحرية ودولة القانون ورفض كل أشكال الاستبداد، تنظيرا أو ممارسة. ويمكن القول إن ملامح مشروع وطني قد بدأت بالتشكل من خلال الممارسة، وليس التنظير، خصوصاً من خلال جملة التوافقات حول دستور 2014 والتجارب الانتخابية المتتالية منذ الثورة، الأمر الذي سيجعل منها تقليداً ديمقراطياً تحرص عليه الأجيال المقبلة، بعيداً عن الهوس الذي يسكن بعض عجائز الحياة الحزبية التونسية، ممن تربوا على ذهنية الاستبداد.

وفي النهاية، يمكن القول إن التجربة التونسية تتجذّر تدريجياً كلما ابتعد أطراف المشهد السياسي عن الصراع حول قضايا الهوية، وتجنب التركيز على النموذج الواحد الممكن، وفتح الباب واسعاً أمام الأجيال المقبلة، لصياغة نموذجها السياسي، وفق خياراتها المناسبة لمستقبلها، والمتسقة مع الإرث الإصلاحي لبلادها.

المصدر: ”العربي الجديد”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق