
لطفي حيدوري:
عندما أكّد لي ناشر تونسي أنّ المعرض الدولي للكتاب بالمملكة العربية السعودية يعدّ من أفضل المعارض العربية ويتفوق على معرض تونس أثار موقفه استغرابي بالنظر إلى كون محدثي يساري ومناضل حقوقي، صمدت مؤسسته تحت قبضة آلة قمع حرية الفكر، وضمنت بقاءها في السوق بفضل الكتب المدرسية الموازية بشكل أساسي.
تعود رواية صديقي الناشر إلى بضع سنوات قبل ثورة 17 ديسمبر 2010 وقد شرح لي التسهيلات التي يلقاها هو وجميع الناشرين منذ مرحلة تسجيل المشاركة حتى وصول شحنات الكتب إلى أروقة المعرض، إضافة إلى أسعار الأجنحة ولوازمها والإقامة. ورغم خلفيته الإيديولوجية “التقدمية” أثنى محدثي على القارئ السعودي واختياراته وحجم اقتناءاته بما لا يقارن مع نظيره التونسي. وكان من العجيب أن ينكر هذا الناشر اليساري، الذي أسرّ لي بكونه أدّى العمرة، وجود رقابة فجة مثل التي يعاني منها الأمرّين في بلده. وزاد في تبيان المفارقات حيث روى كيف دخل المملكة السعودية حرّا بكتبه وعاد إلى تونس فاستقبل بتفتيش دقيق في المطار بحثا عن كتب جلبها من المملكة.
أسوق مثال المملكة العربية السعودية لأنّ منظمي معرض الكتاب في تونس كانوا ولا يزالون، لا فرق بين العهدين (فإلى اليوم تحاول إدارة المعرض بطريقة مقنّعة التحكم في نوعية الكتب وحجم ترويجها وذلك بتحديد سقف الكمية وتاريخ الطبع لاستبعاد ما أمكن من المؤلفات الفقهية)، يدّعون أنّهم مستأمنون على “التنوير” في بلادنا ويشيرون إلى “كتب الخرافة والكتب التراثية الصفراء والكتب الوهابية والتديّن الدخيل” وغير ذلك من عناوين الرقابة المقنّعة والوصاية على القارئ التونسي باسم التونسة ومحاربة الظلامية وما شابه من شعارات إدارات معرض الكتاب الدولي في تونس التي ركبت موجة “ضد التطرف” التي ترضي طبقة سياسية وفكرية فاعلة في الداخل وقوى خارجية، لتقصي مئات العناوين من روايات ودواوين شعر وكتب سياسية وعلمية وأطروحات جامعية التي لا علاقة لها بالثقافة الدينية.
إدارة التفتيش:
خضع معرض تونس الدولي الكتاب الدولي لنظام داخلي، ألغي بعد الثورة، كانت فيه إدارة المعرض وسيطا مع الرقابة. وينصّ صراحة على الرقابة المسبقة حسب المراسلات التي توجهها الإدارة إلى الناشرين وتتضمّن العناوين المقبولة للعرض وقائمة العناوين التي ترغب إدارة المعرض في الاطّلاع عليها.
وينصّ الفصل الخامس من النظام الداخلي على أنّه يحقّ لإدارة المعرض رفض مشاركة أي دار نشر دون إبداء الأسباب. أمّا الفصل الثامن فيشير إلى أنّه يمكن لإدارة المعرض أن تطلب ما تراه من العناوين الواردة بالقائمة المقدّمة قصد الاطلاع عليها قبل الموافقة على عرضها أو ترويجها في المعرض. ويتم توجيه نسخ العناوين المطلوبة إلى إدارة المعرض في طرود منفصلة فور إشعار المشارك بهذا الطّلب. ولا تُعرض أو تباع بالمعرض إلاّ الكتب والوسائط السّمعية والبصرية والرّقمية الحاصلة على الموافقة المسبقة من إدارة المعرض. ويخوّل نفس الفصل لإدارة المعرض القيام بحجز العناوين والمعروضات التي لم تحصل على موافقتها. ويفرض الفصل العاشر أن تتضمّن الشّحنات المرسلة وكشوفاتها، العناوين الحاصلة على موافقة إدارة المعرض دون سواها وفي حدود الكمّيات المحدّدة.
ورغم استيفاء هذه البنود كان بعض الموظفين من وزارة الداخلية يقومون بزيارة المعرض يوميّا والتفتيش عن كل ما يعتبر تحت طائلة المصادرة وأفلت من حصارها.
وقد أعلن بوبكر بن فرج مدير الدورة 28 لمعرض تونس الدولي للكتاب في ندوة صحفية في أفريل 2010 عن فلسفة إدارته فقال في ذلك الوقت: “معرض تونس الدولي للكتاب لن يكون معبرا للشعوذة والفكر الظلامي.. وإدارة المعرض استثنت 15 دار عرض من المشاركة بسبب تعارض مضامين مؤلفاتها مع قيم الحداثة والتنوير والإبداع.. هناك من يحاول استغلال المعرض لبث الدعوة للأفكار الظلامية وهناك دور عرض طفيلية من أكثر من بلد عربي سعت إلى المشاركة في معرض تونس وتم رفضها مما دفع ببعضها إلى تغيير اسم الدار في مناورة يائسة”.
تواطؤ تنويري بثمن بخس:
لم نعثر على وثيقة تسجّل أنّ النخبة العلمية والجامعية وغيرها في تونس أدانت الرقابة المسلطة على معرض تونس الدولي للكتاب أو حتى على نشر الكتاب عموما، وذلك باستثناء محاولة عدد من الجامعيين سنة 2009 تأسيس “مرصد الحريات الأكاديمية” الذي لم تنتظم أشغاله ولم تنشر له أعمال للعموم بل احتمى مؤسسوه بالاتحاد العام التونسي للشغل ولم ينشؤوا هيئة مستقلة في الغرض. وكان هذا المشروع فكرة انبثقت من ندوة عن الحريات الأكاديمية عقدت في فيفري 2009 عرض خلالها بعض المدرّسين العراقيل التي يتعرضون لها داخل الجامعة وخارجها مثل حجب المعلومة ومنع النفاذ إليها، بالإضافة إلى منع عقد الندوات والملتقيات بسبب مشاركة أطراف أو أشخاص مغضوب عليهم من السلطات وعرقلة نشر كتب وبحوث جامعية.
وتبقى المواقف المشهودة لجلول عزونة في مكافحة الرقابة جديرة بالذكر، لكن أيّة رقابة، إذ هو، وهذا من خصائص النخبة التونسية، يلتقي جوهريا مع الرقابة التي مارستها الدكتاتورية تحت شعار “التصدّي للظلامية” ويوقع نفسه في تناقض مثير إذ يقول في كتابه “ضد الرقابة..” الصادر سنة 2013: “أنا ضدّ الرقابة إطلاقا ومع تطوير الشعور بالمسؤولية لدى الفرد والمواطن، لا أن نبقى نحمي المواطن بتعلات مختلفة ونمارس الرقابة بدعوى حمايته. وقد بان بالكاشف أنّ الرقابة إن بدئ في ممارستها فإنّها تنحرف من حماية المواطن إلى قمعه وكبت شعوره”. ثم يتراجع فيقول في موضع آخر من نفس المؤلف: “أنا ضد الكتب الصفراء دينية كانت أو سحرية. وما كان لها أن تعرض بتاتا في معارض الكتاب في بلادنا لأنّها كتبت في عصر غير عصرنا ولأناس غيرنا. ومن ينشر لأمثال هذه الكتب لا يمكن أن نسمّيهم ناشرين بل هم تجّار يستغلّون جهل وأمّية أنصاف مثقفينا. ومعارض الكتاب يجب أن تضمّ الجديد الجديدَ في عالم الإبداع والنشر لا غير. وإن كان لا بدّ من الكتب الدينية وغيرها ممّا ألّف أجدادنا فيجب أن تنشر محققة تحقيقا علميا يتصدّى له محقق كفء أو لجنة مختصة فتخرج الكتاب القديم في ثوب جديد عليه مسحة من العقلانية”. إنّ جلول عزونة بهذا الموقف يؤهل نفسه أن يكون محل أي مدير لمعرض الكتاب قبل الثورة بعملية تجميل سطحية.
وتحت هاجس “عدد من يشتري الكتب” تواطأت النخب المنتسبة إلى “التنوير” مع الدكتاتورية أملا في تحقيق مكاسب على أرضية مشتركة في “الحرب” من أجل استئصال طرف ثقافي وسياسي اجتمعا على وصفه بعدو الحداثة والتقدم. وذلك في تناقض صارخ مع قناعاتهم بخصوص البضاعة الثقافية، من ذلك طرحهم منع الكتاب الديني التجاري مقابل السماح بعرض الفيلم الإباحي التجاري، وكان ذلك بمثابة الخيانة، كما وصفها المؤرخ محمد الطالبي في كتابه (Goulag et Démocratie) ولم يجنوا منها شيئا .يفضح الطالبي ذلك الوضع فيقول: “الجامعيون لا يحرّكون ساكنا، وأصبحت خيانة الكهنة تقليدا. الأمن يراقب الطلبة والبرامج وأنا شاهد على ذلك، يراقب الأساتذة ولا يترك لهم إلاّ أفقا وحيدا: الصمت مقابل الغذاء”. ويتابع قائلا: “الأمن يراقب إعداد البرامج والمطبوعات الجامعية حتى الأطروحات والمكتبات، شأن المكتبات التجارية الخاصّة”.
كان محمد الطالبي النموذج الذي خشيت نخبنا الجامعية مصيره ولم يقدروا على التحدّي مثله. يتحدث عن مقاومته للقمع الفكري في كتابه المذكور، المنشور على شبكة الانترنت منذ سنة 2008 وطبع بعد الثورة، يقول: “يريد بن علي كتم أنفاسي في “غولاغه”، سوف أسافر حتى أتنفّس ولن أهين نفسي بالذهاب إلى أعوانه لتسوّل رخصة قراءة كتاب. إنّ بن علي يريد أن يهين داخلي الفكر والجامعة التي كنت أحد مؤسسيها”.
الوصاية هي الأصل:
لم تكن الرقابة سوى استعراض لقوّة السلطة من جهة نظام الحكم، واستقواءً وتواطؤا من جهة النخبة “التقدمية” المندسة طوعا في السلطة أو المتحالفة ضمنا معها، مدار هذا التحالف السيطرة على العقول، لكنّ الحاكم كان في كلّ حين يخدع المتواطئين معه ويعيدهم إلى مقام المتحكم فيه حتى لا يستولوا على سلطانه، ومن أبرز الأمثلة ما ذكره عبد السلام المسدي في كتابه “تونس وجراح الذاكرة” أنّه عندما نشر محمد الشرفي كتابه الإسلام والحرية “ظلّ الرقيب يتصفّحه ويقرأه طيلة عامين كاملين ولم يُبح بعد ذلك دخوله إلاّ في مقايضة مع الرأي العام الفرنسي. ولم يكن في الكتاب شيء يسيء إطلاقا للنظام بل كلّ ما فيه يؤازر النظرية الرسمية بضرورة تجفيف المنابع”. ويتحدث المسدّي عن مآل بائس للمثقفين التونسيين حين “أفلح الحاكم بأمره في تحويل المثقف إلى فقيه من فقهاء الحذر رقيب ذاتي على نفسه سالك سلوك الاتقاء يصمت حين يهمّ بالكلام فإن نطق استنجد بالإيماء”.
كانت السلطة تدرك جيّدا أنّ خصومها إن تراجعوا أمامها بعصا الدولة فقد تعيد الأفكار جمعهم يوما ما في مواجهتها، ولذلك ضربت مصادر التفكير مثلما ضربت التنظيمات بالأساليب البوليسية ولم تترك المجال للمتحالفين معها للعب هذا الدور حتى لا يحلّوا محلّها.
واجهت الأفكار آلة بوليسية، لا موجات فكرية أخرى، حتى آل الوضع إلى أن أوشكت عناوين الكتب أن تصبح لعنة إذا ما اشتمّ منها الرقيب رائحة السياسة، “وهكذا سافرتُ بالكتب وبعناوينها إلى القاهرة وبيروت ودبي”، يقول عبد السلام المسدّي.
وقد عبّر الناشر حسن أحمد جغام في كتابه مذكرفات ناشر (2009) عن خطأ سياسات الرقابة فقال: “كنت وما زلت أحمل رأيا مخالفا لمنع توزيع الكتاب مهما تضمّن من أفكار ومهما كانت إيديولوجية كاتبه ومهما كان هدفه، أجزم بهذا الرأي لأني مع حرية الإنسان في أن يقرأ ما يرغب في قراءته. وإذا كان اعتقاد بعض العناصر من الأنظمة العربية أنّ الكتب الدينية هي سبب ظهور التيارات الدينية المتطرفة فذلك الاعتقاد ناتج عن سوء فهم وعن تقديرات مخطئة لأنّي أؤكد بأنّ التطرف الديني وما صحبه من عنف لم يكن سببه الكتب الدينية”.
تحصينات المكاسب العامة والخاصة:
عششت الرقابة في ظل الصمت عليها والتواطؤ معها مرحليا، ونشأت على هامشها نخبة انتهازية فعديد الكتّاب والفنانين ساهموا في مصادرة آثار زملائهم سواء بوجودهم داخل لجان الرقابة أو بفعل شغلهم داخل الجهاز الأمنيّ أو بعدم تفريقهم بين انتسابهم إلى الحزب الدستوري وبين ضرورة احترام حرية الكتابة.
ووصف حسن أحمد جغام حال قطاع الثقافة في تونس خلال التسعينات من القرن الماضي وما تلاها بأنّه “وضع غير صحّي تحكمه العاهات”، ومرّت على الكتاب خاصة في عهد وزير الثقافة عبد الباقي الهرماسي سبع سنوات هي “أسوأ السنوات التي مرّت بها حركة النشر”، حسب عبارته. كما اتهم الوزير الهرماسي بأنّه أحاط نفسه بعدد من عناصر دخيلة وعوّل على أشخاص لم ينتموا بصلة إلى الثقافة والمثقفين، بل شبّههم باللصوص.
وكشف صاحب دار المعارف أنّ الوضع الثقافي في تونس دفعه للتفكير في تحويل نشاط الدار إلى بلد آخر تتوفّر فيه ظروف أكثر ملاءمة وقوانين أكثر مرونة، وفكّر في الانتقال إلى لبنان، على غرار الحاج الحبيب اللمسي صاحب دار الغرب الإسلامي، أو إلى المغرب.
وحمَل الكاتب بشدّة على مسؤول الرقابة السابق بوزارة الداخلية أنس الشابي فوصفه بأنّه “صفحة سوداء في الحركة الثقافية التونسية في التسعينات من القرن الماضي أو غمامة عقيمة من حسن الحظّ أنّها مرّت دون رجعة”. ونقل عن الشابي أنّه كان يفتخر بأنّه لا يُقرأ كتاب في تونس إلاّ إذا نال موافقته. ومن ذلك أنّه عطّل كتاب “عيال الله” لمحمد الطالبي لأكثر من سنة بحجّة أنّ الكاتب ذكر بخير اسم محمد المزالي، الوزير الأول الأسبق.
ورغم أنّ الكتاب الثقافي التجاري متاح بصفة حرة وإرادية لمن رام الاطلاع والبحث فإنّ وزيرا أسبق للثقافة اشتهر بسبقه في الدعوة إلى الرقابة والتنظير للوصاية على المجتمع منذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي. يقول في تقرير حرّره بطلب من مدير الحزب الاشتراكي الدستوري سنة 1986: “هذه الكتب عيّنات ممّا يجب حجزه حتى في مستوى دار الكتب الوطنية حيث ينبغي أن يشار إليها بحرف (ح) فلا تُستعمل إلاّ من قبل العلماء والباحثين الخلّص وبرخصة خاصّة من الإدارة.
وفي كتاب بعنوان “كيف زرع الفكر التكفيري في ثمانينات القرن العشرين؟” ينصّب أحمد خالد نفسه حاميا للمكاسب في تقرير بمثابة الوشاية عن مجموعة من الكتب المتداولة في تونس قائلا: “إنّ حرصي على سلامة وطني وإيماني بسماحة عقيدتي وغيرتي على مكاسب دولة الحداثة ومفاخرها هي التي حفّزتني للتوغل في البحث لإبلاغ نتائجه الخطيرة إلى ثلاثة مسؤولين حزبيّين وثقافيين في أعلى مستوى المسؤولية السياسية والحكومية بعد رئيس الدولة والحزب”.
نتائج كارثية:
بيّن منصف بن عياد في مؤلفه “الكتاب التونسي إلى أين”؟ بعد قراءة مفصلة في إنتاج دور النشر والمؤلفين الناشرين حتى سنة 2001 أنّ العناوين شبه المدرسية اكتسحت جلّ مساحات المكتبات في السوق على حساب المساحة المخصصة للكتاب الثقافي وذلك لكثرة طلبه وسهولة بيعه. وحسب نفس المصدر فإنّ 37 دار نشر توقفت عن الإنتاج أو احتجبت نهائيا في سنة 1997.
وفي دراسة لمحمد الصالح القادري بعنوان “واقع النشر وصناعة الكتاب في تونس” يكشف عن مفارقة مخجلة، فخلف الصورة الظاهرة عن التقدم الكبير المحرز في التعليم العالي في تونس “تكمن المفارقة وهي عدم التناسب بين تضاعف عدد الطلبة من جهة وتراجع الكتاب المحلّي من جهة أخرى. فمع انتشار التعليم العالي كان يفترض أن يتطور بنفس الحجم قطاع الكتاب الثقافي والكتاب المتخصص. لكن تونس شذّت عن هذه القاعدة وعوّض الكتاب باللسان الفرنسي فراغ الكتاب المحلّي وتمّ سدّ الفراغ بالاستيراد من فرنسا خاصة”. تلك نتيجة العداء للكتاب التي وثقتها آخر دراسة إحصائية بأنّ معدل إنفاق الفرد التونسي على الثقافة لا يتجاوز 3,6 دينار سنويا.
المصدر: ”الضمير”