تحاليلتونس

“الوحدة الوطنية” و “الاستقطاب” …صراع الشقوق

الحبيب بوعجيلة:

روايتان بارزتان في “تقدير الموقف” و “تحديد المرحلة” بعد سنوات خمسة من عمر الثورة و في أجواء من اشتداد المعركة مع الارهاب و في اطار تحولات اقليمية و عربية عاصفة نطق بهما في الذكرى الستين للاستقلال كل من “الباجي قايد السبسي” في “قرطاج” و “محسن مرزوق” في “قبة المنزه“.

الروايتان ستطبعان المشهد السياسي خصوصا و أنهما تعبران على تلخيص للموقف العام من الراهن السياسي و تنبعان تقريبا من نفس المركب الذي تمكن من الفوز في انتخابات 2014 على قاعدة الاستقطاب مع الاسلاميين و التناقض مع مخرجات الثورة في سياق توتير للأجواء قاد فيه السبسي و ساعده الايمن محسن مرزوق معركة كل المعارضة في مواجهة كل مخرجات انتخابات اكتوبر 2011 .

الباجي قايد السبسي في خطاب الوحدة الوطنية

خطاب الذكرى الستين لرئيس الجمهورية أكد استمرار الرجل في نفس الخيار الذي أقام على أساسه خطته في التعاطي مع الواقع التونسي بعد نتائج انتخابات 2014 حين قطع نهائيا مع خطاب الاستقطاب واتجه  الى خيار الوفاق أو الشراكة في الحكم مع حركة النهضة.

خيار الشراكة مع خصم الامس فاجأ طيفا واسعا من أنصاره و متابعيه و قد كان الباجي قايد السبسي يبرره في أحيان كثيرة بإكراه النتائج و يذهب ملاحظون أنها أيضا اكراهات الوضع في الاقليم و لكن رئيس الدولة لم يتردد هذه المرة في خطاب الذكرى الستين على تبريره بمقتضيات الوحدة الوطنية في مواجهة التحديات التي تعيشها البلاد اجتماعيا و اقتصاديا و أمنيا.

رئيس الدولة أكد أن لا بديل أمام التونسيين اليوم إلا الوحدة الوطنية، لمواجهة التحديات الخطيرة، منها التحدي الأمني ومقاومة الارهاب، وتحدي التشغيل، والتحدي الاقتصادي، وتحدي تكريس الديمقراطية. واعتبر أنه من دون توفير أسباب الوحدة الوطنية فانه لا يوجد تقدم مبينا أن الوحدة الوطنية هي التي مكنت تونس من الكفاح ضد المستعمر الفرنسي.

الباجي قايد السبسي قال انه يُقر بوجود حساسيات سياسية ومرجعيات  ذهنية و عقائدية مختلفة، لكن المرجعية الحقيقية الوحيدة التي من دونها لا نجاح لأي مرجعية هي الوطنية.

محاولة الاشتغال على سردية الوحدة الوطنية التي يعتبرها عنوان المرحلة دفعت بالباجي قايد السبسي في خطاب اليوم الى اعلان اعادة نصب بورقيبة الى نفس مكانه في الشارع الرئيسي الذي يحمل اسمه و في محاولة رمزية للتأكيد على تركيز قاعدة الوحدة الوطنية على المصالحة التاريخية ذكر باستعادة الزعيم صالح بن يوسف لمكانته بين صفوف القيادات الدستورية التاريخية مؤكدا أن خلاف بورقيبة و بن يوسف لم يكن على الاستقلال بل على اسلوب الحصول عليه و بهذه الاشارة يكون الباجي قايد السبسي قد حسم علاقته الشخصية المتوترة مع اليوسفيين ليؤصل الوحدة الوطنية التي يطالب بها حاليا على قراءة جديدة للتاريخ .

خطاب الوحدة الوطنية الذي اشتغل عليه الباجي في خطابه في ذكرى الاستقلال تردد صداه في بيان “حليفه” اللدود حركة النهضة والتي واصلت في بيانها بمناسبة الذكرى الستين التأكيد على ما سمته بسلامة “الخيار السياسي القائم على الحوار واعتماد التوافق والشراكة والتعايش الذي تحميه الوحدة الوطنية“.

بيان النهضة استعاد تقريبا نفس المبررات التي اعتمدها رئيس الدولة في تعليل خيار الوحدة الوطنية حين ركز على تحدي الارهاب والتحديات الاقتصادية والاجتماعية ومطالب التشغيل ومقتضيات التنمية وضرورات احياء ثقافة العمل واقتران تحقيق اهداف الثورة في الديمقراطية والحرية والكرامة بترسيخ المصالحة الوطنية.

وفي نفس السياق كان خطاب رئيس الهيئة السياسية لنداء تونس رضا بلحاج الذي اعتبر أن الوحدة الوطنية والالتفاف في جبهة واحدة حول الحكومة والرئيس شرطان رئيسيان لمواجهة الارهاب.

محسن مرزوق …الاستقطاب مرة أخرى...

في مقابل خطاب “الوحدة الوطنية ” استعاد “محسن مرزوق” المدير السابق لحملة “الباجي” نفس مفردات الاستقطاب الذي قام عليه الخطاب الانتخابي و الصراع السياسي في مرحلة ما قبل 2014 .

مرزوق” يصر على اعتبار “المشروع” الذي أعلنه هو الاستمرار الوفي للمرتكزات التي قام عليها “نداء تونس” قبل أن يتشظى مباشرة بعد تشكيل حكومة “الصيد” و اقرار “الباجي” لمبدأ الشراكة في الحكم مع النهضة.

وفي لقائه صباح الذكرى الستين للاستقلال مع أنصاره دعا مرزوق الى تشكيل جبهة تضم كل الاحزاب التي ساندت الرئيس الباجي قايد السبسي في الانتخابات الماضية مذكرا بتناقض مشروعه الجديد مع حركة النهضة وان كان لا يرفض التعايش معها على اساس ان يكون الدستور حكما بينهما.

و من الواضح من خلال الأسماء و الشعارات التي رافقت اعلان مشروع “مرزوق” أن الحزب الجديد يصر على الاستثمار مرة أخرى في خطاب الاستقطاب الايديولوجي بين ما يسميه “المشروع العصري” و “المشروع المحافظ” و لا يخفى على المتابعين ان المحور الاساسي الذي سيشتغل عليه “مرزوق” في مواجهة المركب الحاكم حاليا هو الاشتغال على ما يسميه البعض بالخيبة التي أصابت اتباع “الرئيس الباجي” ممن أقاموا مناصرتهم له في الانتخابات الماضية على قاعدة التباين مع حركة النهضة و زعم استعادة المشروع البورقيبي “الحداثي” في مواجهة “المشروع الماضوي للإسلاميين” .

كتلة الحرة التي تمثل “المشروع” كان أول ما تقدمت به الى مجلس النواب اثر تشكلها هو مشروع قانون يتعلق بالنقاب في محاولة واضحة لافتعال معركة ثقافية فكرية في علاقة بمسالة الحريات الدستورية من ناحية و مقاومة الارهاب من ناحية أخرى مما يؤكد الرغبة على احراج الحلفاء السابقين في نداء تونس عبر اعادة المعركة الى مربع التجاذب الثقافي.

من ناحية اخرى انتقد “مرزوق” في خطابه مقولة الوحدة الوطنية في اطلاقيتها مؤكدا أن الامر لا يعني نفي الاختلافات والتباينات في المشاريع المجتمعية بين “العصرانيين” و “المحافظين” وبهذه الاشارة وما سبقها من دعوة الى “جبهة جمهورية” يكون “محسن مرزوق” قد حدد تكتيكه الحالي بالاستثمار مرة أخرى في “جاذبية” خطاب التناقض مع “النهضة” في أوساط طيف واسع من “المثقفين” و “النساء” المعروفات بتوجسهم من المشروع الإسلامي للنهضويين.

جاذبية خطاب “الوحدة” لكن

من المؤكد بطبيعة الحال أن خطاب الوحدة الوطنية الذي يشتغل عليه الرئيس وحلفاؤه يبدو اليوم أكثر جاذبية من خطاب الاستقطاب والمواجهات الذي لا يجد صداه في مزاج شعبي مرهق من التجاذبات والمناكفات السياسية في ظل تعطل التنمية واشتداد الاحتقان الاجتماعي وارتفاع منسوب الخطر الارهابي.

وفي سياق متصل يبدو اليوم خطاب “المصالحات” و “التوافقات” و “التسويات” هو المسار الاكثر اغراء في عالم عربي متفجر واجهت فيه ثورات الربيع العربي مخاطر جمة حولتها في ليبيا ومصر واليمن الى أجواء احتراب اهلي مخيف في مقابل اعجاب بالنموذج التونسي الذي استطاع تجنب سيناريو الصراع الدموي عبر الحوار ثم الشراكة في الحكم.

وفي الإطار نفسه يبدو خيار التوافق الوطني وتجاوز الاستقطابات الايديولوجية والثقافية مدعوما بغطاء اقليمي ودولي مهم ولعل الموقف الجزائري وباقي الجيران الشماليين في الضفة المقابلة للمتوسط والمتوجسين من خطر الارهاب سيجعل كل محاولات العودة الى تجاذبات السنوات الثلاثة الماضية أمرا غير مرغوب فيه مما يجعل خطاب “مرزوق” ومن حالفه من قوى “الاستئصال” بلا دعم دولي إلا ممن عُرف تقليديا بالتآمر على الثورة التونسية من بعض مراكز النفوذ العربي.

لكن خيار الوحدة الوطنية سيبقى خطابا بلا مفاعيل على الأرض ما لم تتوسع قاعدة المنتصرين اليه والمستفيدين منه وهو ما يتطلب توضيح حقيقة هذه الوحدة الوطنية على مستوى خيارات الدولة ثقافيا وتربويا وعلى مستوى تفعيل أهداف الثورة في مقاومة الفساد واصلاح المؤسسات ومحاسبة المخطئين وانصاف ضحايا الاستبداد وضمان التنمية المتوازنة وتمكين الشباب.

وبين خطابي الوحدة والاستقطاب تظهر قوى سياسية أخرى نأت بنفسها عن خطابات الاستئصال والمواجهة ولكنها مازالت تقف على أرضية ما تسميه بجبهة القطيعة الثورية ورغم ضعفها الحالي إلا انها يمكن ان تستفيد من كل قصور قد يبدو على اداء ائتلاف “الوفاق الحاكم” ….

المصدر : ‘‘الشاهد” 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق