تحاليلتونس

الفساد في تونس: واقع مستفحل وإرادة مفقودة ..

حمّادي معمّري:

الآن وهنا…ليس بعيدا في الزّمان والمكان … في تونس مُفجِّرة الثورات العربية ومَفخرة ما سُمي مجازا ربيعا عربيا و قاطرة التحوّلات الدّيمقراطية في المنطقة… يُنظر اليها والينا بإجلال واحترام ..ويُكبرون فينا تمسّكنا بنهج طالبنا به وحلمنا به وهو الدّيمقراطية ككل متكامل لا مجزّأ .. غير بعيد في الزمان تُوجت تونس أيضا بجائزة نوبل للسّلام ممثلة في رموز المجتمع المدني الذي حرّك السّواكن ايّام الحراك الاجتماعي الثوري وأنقذ البلاد بعد الثورة من أتون الفتنة والحروب لمّا تمكنت نزعات الاحتراب والتقاتل الايديولوجي بين شقين من التونسيين واحد اسلامي والآخر حداثي.

الآن وهنا تتعطّل لغة الكلام أمام هول ما نسمعه عن استشراء الفساد ..أنباء لا تساق باحتراز بل صادرة عن مسؤولين في هيئات تقاوم الظاهرة فأن يتحدّث رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في تونس الاستاذ شوقي الطبيب عن أن الفساد الذي استشرى في البلاد والعباد أصبح في مستويات عليا وتجاوز الخطوط الحمراء و بات خطرا على الدولة مشيرا الى ان اكثر من تسعين في المائة من هذه الملفات المعروضة الان امام القضاء متورطة فيها اجهزة الدولة فهذا الامر مخيف ومرعب ومهدّد لكيان الدولة داعيا الى ضرورة اعداد الاطار التشريعي لمكافحة الفساد وإصدار القوانين اللازمة خاصّة منها المتعلق بحماية الشهود ومقاومة الاثراء غير المشروع وتضارب المصالح.

مؤشرات مفزعة:

الفساد لا ينكره أحد فهو أصبح ثقافة أو يكاد في المعاملات الرسمية بين أجهزة الدولة او بين مؤسساتها والمواطن او بين المواطن والمواطن… سلوك يومي يتلخص في حركات وممارسات معلومة لدى الجميع …ممارسات تقطر انحطاطا تمارسه فئة محددة من اعوان الدولة ومؤسساتها.

مؤشرات خطيرة تحدثت عنها جمعيات ومنظمات تشتغل في هذا المجال والتي أكدت ان ما يسمى بالفساد الصغير وهي المعاملات المالية المشبوهة بين المواطن والموظف في الدولة او بين المواطن والمواطن … ففي سنة 2014 بلغت قيمة هذا النوع من الفساد وبحسب دراسة اجرتها جمعية المراقبين العموميين بلغ 450 مليون دينار اي ما يكفي لبناء 50 كيلومترا من الطرقات السيارة …كما يرى حوالي تسعين بالمائة من التونسيين انه لا توجد ارادة سياسية لمحاربة الفساد الذي يجد في التعقيدات الادارية والبيروقراطية الثقيلة ارضية خصبة لانتعاشه .

حوالي ثلث التونسيين دفعوا رشاوي:

الدّراسة نفسها أشارت أيضا إلى أنّ حوالي 30 بالمائة من التونسيين دفعوا رشاوي أو هدايا من أجل قضاء شؤونهم.

أرقام بقدر ما هي مفزعة بقدر ما هي أيضا مخجِلة في دولة لا تعوزها إلاّ الإرادة القوية في وضع الآليات اللازمة والمؤسسات وتفعيل اجهزة الرقابة من أجل وضع حد لهذا النزيف.

فما الذي يحول دون ذلك إذن؟ أعتقد ان تحالفا مقيتا بين المال والسياسة هو الذي افرز هذا التلكؤ في صنع مؤسسات قادرة فعلا على محاربة الفساد… زواج المال بالسياسة والبهجة والزهو البادِييْن على بارونات المال المتمترسين في مواقع سياسية جلية وواضحة هم من يحولون دون ان تتعافى البلاد من اورام الفساد الذي أنهك الدولة وتمكّن من مفاصلها.

كل المسؤولين في الدولة يتحدّثون عن استشراء الفساد الا انهم عاجزون او يكادوا عن مقاومته والبدء في تحصين البلاد مستقبلا من هذه الآفة عبر جملة من الاجراءات الوقائية والحمائية وايضا عبر ترسيخ وتكريس ثقافة المساءلة والشفافية.

كل مسؤول كبير او صغير في موقع سلطة ونفوذ ينزع بشكل “مكيافلي” لممارسة السلطة التي تعني الفساد إذا ما غابت ثقافة المساءلة والشفافية.

لذلك تتم عديد المناظرات بالملفات مهما كانت مواقعها واختصاصاتها وفق الاهواء والأمزجة والعلاقات الشخصية… سلوكات ذئبوية دفينة تطفوا على السطح في التعاطي مع عديد الملفات الحساسة التي تمسّ شريحة واسعة من الموظفين والاعوان.

التربية على قيم المواطنة والمساءلة:

الفساد عقلية شرسة متمكنة في الدولة وأجهزتها ومسؤوليها ومعشّشة في شرايين العقل التونسي والعربي عموما ومعالجتها لا تكمن في الهيئات والآليات والمواقع الالكترونية للتبليغ عن الفاسدين فحسب وإنما ايضا عبر ترسيخ ثقافة جديدة لأن الفساد سلوك مقيت كامن يتربّص باللحظة المناسبة لينبجس بممارسات زئبقية لولبية لا يترك صاحبه وراءه اثرا لذلك يصعب الاستدلال بالحجج او الاستظهار بالأدلة في عديد القضايا التي تحوم حولها شبهات الفساد.

في الدولة فساد في الصفقات العمومية كما جاء في تصريح رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والعمولات بآلاف المليارات التي يغنمها الوسطاء في الصفقات الكبرى التجارية والاقتصادية وفساد صغير يبدأ بدينارات معدودات ليكوِّن ثروة طائلة إذا ما تكدّس دون رقيب.

التعاطي مع ملف حساس كهذا لا يمكن ان يبدأ بين عشية وضحاها بترسانة معقّدة من التشريعات والقوانين فحسب بل أيضا بالتربية على المساءلة والمحاسبة والشفافية والمواطنة وهي قيم يمكن العمل على تكريسها في المجتمع التونسي من خلال التربية والتعليم ومن خلال تعديل المناهج وادراج مواد تختص بالتنشئة الاجتماعية السليمة والتربية على قيم المواطنة واحترام حقوق الآخر وواجبات المواطن تجاه الدولة والمجتمع.

منظومة سلوكية تربوية قيمية يمكن ان يتلقاها المربّي ليبلغها الى التلاميذ في الصفوف الاولى من التعليم الابتدائي حتى ينهل التلميذ الصغير من قيم نبيلة تجعلنا نقطف ثمار هذا العمل مع الاجيال القادمة.

وعلى مسؤولي الدولة أن ينهجوا نهج الشفافية والمصارحة مع الشعب من خلال الكشف عن ثرواتهم والقيام بواجباتهم الجبائية نحو الدولة حتى يكونوا قدوة للبقية.

 

المصدر: “وكالة أنباء اتحاد المغرب العربي”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق