
الحبيب بوعجيلة:
لم يرض التناول الإعلامي التونسي للظاهرة الإرهابية أحدا منذ انطلاق هذه الآفة في بلادنا بعد الثورة و الانفجار الاعلامي .
إعلام بلا أنصار …
في بيان شهير للهايكا بعد عملية باردو تم انتقاد تعاطي وسائل الإعلام مع الحدث و أشارت الهيئة إلى التهافت على السبق الصحفي الذي أدى إلى ترويج الإشاعات و حذرت من الإثارة و الوقوع في الإستراتيجية الاتصالية للإرهابيين .
أما السلطة المعنية و أساسا وزارة الداخلية فقد عبرت على لسان ناطقيها باستمرار عن امتعاضها من تعاطي الإعلام مع الظاهرة الإرهابية .
في حين تعبر الأحزاب عن مواقف مختلفة بحسب ما يُتاح لها من مساحة لرواية استخلاصاتها و توزيع اتهاماتها و تؤكد الملاحظة البسيطة للخط الغالب على تحرير أغلب وسائل الاعلام الخاص و العمومي أن الترويكا السابقة و حركة النهضة بالأساس تبدو أكثر المُتضررين من الاعلام بعد كل عملية ارهابية بما يطولها من اتهامات .
الجمهور المتلقي يقابل غالبا بالازدراء والغضب أسلوب تعاطي الإعلام التونسي مع هذا الخطر الداهم فجعله يبقى موضع تجاذب حزبي و إيديولوجي و ثقافي.
إعلام مارق ..قانون غائب:
لا شك أن فراغا قانونيا في كيفية التعاطي الإعلامي مع الظاهرة الإرهابية يمنح “العابثين” في الساحة الاعلامية هامشا من “عدم الجدية” في تناولهم للأحداث باعتبار أن المرسوم 116 نفسه يسهب في وظيفة هيئة التعديل السمعي البصري مع إشارات سريعة لحرية الإعلام دون تحديد علاقتها بأمن الأفراد و الأمن الوطني .
وفي غياب وحدة فكرية و سياسية في مقاربة الظاهرة الارهابية تتعدد الخلفيات السياسية المتحكمة في خطوط تحرير المؤسسات الإعلامية التي تتعامل مع الظاهرة.
في بيان الاستقالة الأخير لعضوي الهايكا تم تأكيد خضوع المشهد الإعلامي إلى تجاذبات قوى الضغط الحزبي و المالي الداخلي و الدولي و باعتبار تباين وجهات النظر السياسية المحلية و الإقليمية و الدولية في التعامل مع الظاهرة الإرهابية و توظيفها في علاقة بوضعيات الانتقال الديمقراطي و المسارات الثورية التي يشهدها العالم العربي يصبح من المشروع “الطعن” في خلفيات تعاطي الإعلام التونسي مع الإرهاب و اتهام وسائل الاعلام و العاملين فيها بتنفيذ الأجندات الحزبية و حتى الدولية المتحكمة في توظيف الظاهرة .
الكوارث الثلاثة …الارهاب في الاعلام:
ان نظرية “تحليل الأطر الخبرية” تمكننا من اعتبار الموضوعية و الحياد في الإعلام مجرد كذبة ابستيمولوجية باعتبار أن كل تناول إعلامي هو انتقاء متعمد لبعض جوانب الحدث من زاوية نظر محددة لصناعة رأي معين ينتج تأثيرا في المشهد السياسي و الاجتماعي و توازناته .
من خلال متابعة طريقة صناعة “الخبر” حول الارهاب و تحليله في الإعلام التونسي نتوقف عند الاستخلاصات التالية التي تؤكد التكامل بين اجندة الارهاب و خطايا الاعلام :
1)يسيطر مطلب الإثارة و رفع نسب المشاهدة على اغلب وسائل الاعلام و هو ما يوقع غالبية المشهد الإعلامي من حيث يدري أو لا يدري في “تنفيذ أجندة الإرهاب”.
فالتعريف العلمي المتوافق عليه اليوم هو اعتبار الإرهاب كل استعمال للعنف غير المشروع بغاية الترويع العام و تعطيل ملكة التفكير العقلاني تحت الخوف بغاية التأثير في المشهد السياسي و في هذا السياق تؤدي وسائل الإعلام بتسابقها على الإثارة و السبق الصحفي مهمة الجماعات الإرهابية التي تمكنت عبر الإعلام من التحول إلى رقم أساسي في المشهد السياسي في مواجهة الدولة في نفس الوقت الذي تحقق فيه وسائل الإعلام أهدافها الربحية . و هذا ما يحيل على العلاقة التكاملية الخطيرة بين الإعلام و الإرهاب كما يشير الى ذلك البحث الشهير “الدم و الحبر:اللعبة المشتركة بين الإعلام و الإرهابيين” (فري +رونر).
2) تسيطر على خط تحليل المادة الخبرية في الإعلام التونسي الرغبة الواضحة في فتح الطريق لتبرير إرهاب الدولة الذي يصبح ملاذ جماهير يتم شل تفكيرهم بالخوف فيلتجئون إلى “الحاكم القوي و المستبد لحمايتهم ” .لم يكن شاغل الإعلام التونسي في خطه الغالب انجاز عمل مهني في التعاطي الموضوعي مع حدث خطير نريد فهمه و مقاومته بقدر ما كان هذا العمل الإعلامي إعدادا لشروط استقطاب بين الأمن و الحرية و تأثيم من يربط الظاهرة الإرهابية مثلا بالتآمر على الثورة و ازدراء فرضية اعتباره نتيجة الاستبداد و الفساد.
يجب أن يكون واضحا أن أكبر خدمة تؤدى للإرهاب جعله في مواجهة دولة استبدادية أمنية مخابراتية و معادية لمجتمعها و طلباته المادية و واختياراته الثقافية .و جعله في مواجهة جمهور خائف مخير بينه و بين دولة تستبد بافكاره و خياراته المجتمعية .
ان تغطية العمل الإرهابي من زاوية تحريرية تقوم على الإثارة و السبق و رفع منسوب طلب القمع هي تحقيق لاستراتيجيات متظافرة و هي إستراتيجية الإرهابي واستراتيجية الديكتاتور واستراتيجية المستثمر في الإعلام .
3)تحدث الفلاسفة الغربيون الأحرار بعد 11 سبتمبر عمن سماهم الباحث الفرنسي “فانسون جيسار” بالمثقفين الإعلاميين الذين اتجهوا إلى تحليل الظاهرة الإرهابية بالكتابات التبسيطية التضليلية عن الإسلام .
هذه هي الصورة التي تتبادر إلى أذهاننا و نحن نتابع طبيعة التناول الصحفي للإرهاب و الذي يتولاه من يسميهم الإعلام التونسي ب”المحللين السياسيين” و “الخبراء في الجماعات الإسلامية” و “الخبراء الأمنيين” و هم على العموم مجموع الأشخاص الذين لم يكن لهم لزوم في مواقع الحكم أو قيادة الأحزاب فتم توزيعهم على البلاتوات للتكفل بمهمة نشر الفوبيا الثقافية .
قامت معالجة “الخبراء” و “المحللين” للظاهرة الإرهابية على دعم الاستقطاب الإيديولوجي و الصراع مع دين الشعب و تصفية الحسابات الحزبية مع غض الطرف و إسكات كل من يشير إلى تعقد الظاهرة و تداخل التآمر الدولي و الاستخباري مع مؤامرات المنظومة القديمة و أذرعها المسلحة و تبكيت كل من يلمح إلى دور ضمور الثقافة الدينية و تجفيف ينابيع العقيدة السمحة و ترويج الثقافة الاستهلاكية و عولمة الضحالة و الرداءة .
و يقوم تحليل “الخبراء” على الجرأة الغريبة في ترويج معلومات حول عمليات ارهابية محتملة و وثائق الدولة و أسرار التحقيق الأمني و القضائي و قائمات محتملة للمهددين بالاغتيال و اتهامات على المباشر للخصوم السياسيين دون إثباتات و التهجم على القامات الدينية و المشائخ و جعل بيوت الله في موضع التهمة رغم إثبات الإحصائيات و الدراسات العلمية أن الجماعات الإرهابية تستقطب عملاءها من الفضاءات الالكترونية و عالم الجريمة و الانحراف و أحزمة الفقر و التهميش.
تبدو هذه الزاوية في المعالجة الإعلامية مشدودة إلى تماس غريب مع أجندات حضارية و ثقافية معلومة و مع استراتيجية الحرب الأمريكية على الإرهاب فهي تحيلنا على ما عبر عنه الامريكي “رامسفيلد” مباشرة بعد أحداث 11سبتمبر بحرب الأفكار و الذي ينتهي إلى وضع تقابل بين هوية الشعوب و حقها في الاستقلال الثقافي و مهمة الحرب على الإرهاب .
و مثلما يضع الإرهابي فسطاط الكفار و الطاغوت في مقابل فسطاط الدولة الثيوقراطية المسماة خلافة يضعنا الإعلام في معادلة مع “الحداثة” كما يراها مثقفو التبسيط الإعلامي أو مع الإرهاب تماما كما وضعنا “بوش” أمام معادلته “مع الاستعمار أو مع الإرهاب ” .
ختاما …
التناول الإعلامي الموضوعي للإرهاب في أفق وحدة وطنية تنأى بنفسها عن أجندة قوى الطغاة و الغلاة و الغزاة يقتضي صياغة إطار قانوني لهذا التناول على أرضية الدستور الذي حسم المسالة الديمقراطية و حقوق الإنسان و انتصر للثورة و قال رأيه في مسالة المشروع المجتمعي و خيار الهوية و استقلال القرار الوطني بعيدا عن التجاذبات الدولية و مشاريع الاستعمار و الاحتراب المذهبي و هذا ما يعني أن التناول الإعلامي للإرهاب يقتضي نقاشا سياسيا شجاعا يحفظ حرية الاعلام في نفس الوقت الذي يحصن فيه المجتمع من انفلاتات و مخاطر الفوضى الخبرية و التحليلية .
المصدر: “الشاهد”