تحاليلتونس

في التعاطي الإعلامي مع أحداث بن قردان.. هكذا تتحوّل منابر إعلامية إلى أذرع للإرهاب.. السطو على النجاحات الأمنية من أجل أهداف سياسوية

فائزة الناصر:

“نحن نعيش في فترة تحكمها الشفافية  المتعاظمة وأصبح فيها للتونسيين العاديين قدرة متنامية على سرد الأحداث في منصات الميديا الاجتماعية، إضافة إلى قدرات الجماعات الإرهابية نفسها على توظيف هذه المنصات  لاستراتيجيتها الدعائية… وعلى هذا النحو يجب إعادة طرح السؤال من جديد بالطريقة التالية كيف يمكن للميديا  أن تخبر التونسيين بشكل جيد ومهني؟ أي اخبارهم وتزويدهم بالمعارف الضرورية لفهم الأحداث الإرهابية دون خدمة أهداف الإرهاب؟” هكذا افتتح الباحث والأستاذ المحاضر بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار الصادق الحمامي دراسته التي تحمل عنوان “الميديا والإرهاب”. تساؤل الإجابة السليمة عنه قادرة على معالجة الأزمة التي خلقتها وتخلقها يوميا وسائل إعلام تونسية خلال تناولها للأحداث الإرهابية.

تسابق نحو المعلومة والصور المؤثرة التي تمثل لعبة من ألاعيب الإرهاب، تقديم خدمات لمصلحة الإرهاب عبر إظهار مشاعر الخوف العام التي يمكن أن تسببها أعمالهم، نشر الصور الصادمة أو صور الأعمال الإرهابية التي تمس الحياة الخاصة أو كرامة الضحايا أو تلك التي تساهم في تعميق مشاعر الرعب لدى الجمهور والضحايا وعائلاتهم، تصعيد التوتر الاجتماعي عبر الأخبار أو التحاليل المستعجلة والموجهة، نشر خطابات قائمة على التحريض والكراهية. عدم وضع الحدث في سياقه الصحيح بموضوعية ودقة، الانزلاق إلى التمييز أو القولبة النمطية السلبية ضد الأشخاص أو الجماعات، الإشارة غير الضرورية إلى العرق أو الدين أو الجنس أو غيرها من خصائص الفئات التي يمكن أن تغذّي التعصّب والكراهية، التركيز على الخلاف والصراعات والنفخ فيها، تقديم دعاية مجانية للإرهاب.. هذا بالضبط ما تقوم به منابر إعلامية خلال تعاطيها مع الأحداث الإرهابية..

يبدو أنّ منظومة إعلام عبد الوهاب عبد الله لا تستطيع أن تتطهر من لعنات منطق الغنيمة السياسية والاستثمار الحزبي حتى وهي تتعاطى مع آفة من أخطر وأفتك الآفات التي قد تنهش الأوطان وتمزق أوصالها، ويبدو أنّ الهاجس الأمني والتهديد الذي يشكله لا يرتقي إلى مستوى رغبتهم الجامحة في السبق والتأجيج وتصفية الحسابات السياسوية  والإيديولوجية الضيقة .

ففي الوقت الذي تراق فيه دماء زكية من المدنيين الأبرياء ومن أبناء المؤسستين الأمنية والعسكرية فداء للوطن ووحدته وسلامته تأتي تحاليل بعض المنابر استثمارا رخيصا في الدماء، ونشازا وسط جوقة من الأصوات الوطنية والمسؤولة التي تتنادى من أجل رصّ الصفوف والتوحّد في مواجهة الإرهاب وتحييده عن كل تجاذب سياسي أو توظيف حزبي ضيّق ورخيص.

فتحليلاتهم الفذة واستهداف الدولة بحديثهم عن تفكّكها وضعفها وتباكيهم على عهد ولي نعمتهم الذي ولّى بأمنه وأمانه، كان استثمارا جديدا في دماء التونسيين، ومحاولة أخرى لتمرير أجنداتهم التي أخفقت في فرضها في محطات عديدة، فعادت مستثمرة الأحداث الدامية الأخيرة في بن قردان للتشكيك في الدولة وفي المؤسسة الأمنية والعسكرية والسطو على النجاحات الامنية من أجل بعض الأهداف السياسوية.

صحيح أنّ بلادنا قد طالتها يد الإرهاب وهدّدت أمنها في عدد من المواطن والمواقع، لكننا لسنا معزولين عن العالم، ولسنا بدعا نختلف عن شعوب أخرى أرّقها غول الإرهاب، فتاريخ الإرهاب في الولايات المتحدة أو إيطاليا أو فرنسا أو إسبانيا مليء بالدماء وبالحوادث الدامية وبالقتل والتفجيرات، ومع ذلك لم تخرج نخب سياسية لتهتف بإسقاط النظام، ولم يطالبوا باستقالة وزراء، ولم يصفّقوا فرحا بكلّ دم يسيل، وبكلّ روح تزهق في سبيل الوطن، ولم يستثمروا الدماء لتحقيق مكاسب حزبية أو انتخابية على حساب خصومهم السياسيين، بل توحّدوا شعوبا وأحزابا وإعلاما ومنظمات وهيئات ونقابات ووقفوا صفّا متراصّا ضدّ العنف والقتل وسفك الدماء وترويع أوطانهم.

إنّ المتأمّل في النقاشات والتحاليل، وفي الموائد المستديرة التي تدار في بعض المنابر الإعلامية، لن يجد فيها سوى أحكام مستعجلة، واستنتاجات اعتباطية، وتحاليل مبنية على شبهات، وخطابات تحريضية تارة على المساجد وأئمتها في العموم، وتارة ضدّ حزب سياسي بعينه، وتارة أخرى ضدّ الدولة ومؤسساتها، وضدّ المؤسسة الأمنية بالذات، فهؤلاء لا يفقهون أنّ إلقاء التّهم جزافا لتصفية حسابات ضيقة مع الخصوم السياسيين، وحلّ الأزمات بخلق أزمات أخرى، وتوتير الأوضاع وتعقيدها أكثر فأكثر، والهروب إلى الأمام، لن يضعف الإرهاب، ولن يحدّ من انتشاره، بل على العكس سيغذّيه، ويهيئ له البيئة المناسبة.

وفي الوقت الذي يسقط فيه أبناء المؤسستين العسكرية والأمنية ضحايا لأبشع عمليات الإرهاب في بلادنا التي دخلت مرحلة خطيرة ودقيقة، تعتمد فيها تقنيات وتكتيكات جديدة أشدّ خطورة من سابقتها تستوجب التفاف جميع القوى الوطنية، وتوحيد الجهود، وجعل المصلحة الوطنية العليا فوق كلّ الاعتبارات الحزبية، قامت هذه الأبواق الإعلامية المتحزّبة بتحويل وجهة الإرهاب باستغلال تلك العمليات لتوجيه ضربة للدولة ولخصومهم السياسيين، في استغلال رخيص للعملية الإرهابية الآثمة، ولدماء الأمنيّين وتحوّلت إلى ذراع من أذرع الإرهاب.

فهل بهذا التعاطي سنجابه الإرهاب ونتصدّى له؟ هل بهذا التوظيف المعيب للدماء ولمصائب الشعب ونكباته يقاوم الإرهابيون ويحاصرون؟ هل باستراتيجية شقّ وحدة التونسيين، وتخوين المؤسسة الأمنية والتشكيك فيها، تكمن الحلول لمقاومة ظاهرة أنهكت الكثير من شعوب العالم؟

المصدر: ”الضمير”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق