
نصر الدين بن حديد:
الناظر إلى المشهدين السياسي والإعلامي في تونس، عشيّة «غزوة القصبة» التي أقدمت عليها «النقابات الأمنيّة» لم يعد معنيّا بالبحث عن الجهات السياسيّة والإعلاميّة وحتّى 26 فبراير 2016 الحقوقيّة والمجتمعيّة، التي تقف ضّد هذه النّقابات، بل في التفتيش بين ثنايا التصريحات وخبايا صفحات الانترنت عن «صوت» (محايد واحد)…
تداعت «القبائل التونسيّة» (السياسيّة والاعلاميّة والحقوقيّة والمجتمعيّة)، بل صارت «فعلا» (وليس مبالغة)، على «صوت» (رجل واحد)، حين تناست (بقدرة قادر) جميع معاركها «الجانبيّة»، وصارت إلى (هذا) «الحلف المقّدس».
مع فارق الزمن والظرف، لكّن تشابه الأحداث، تعيش تونس (في علاقة بمنظومة الأمن) أجواء الأيّام التي تلت 14 جانفي 2011، حين أقدمت وسائل الإعلام من خلال «حلف مقّدس» على «شيطنة الأمن» (ورجاله)، بل جعلهم «رأس المشكل»، إن لم نقل «أصل البلاء».
وجب القول أّن لا حاجة إلى ذكاء شديد ونبوغ في الفكر، ليفهم المرء أّن وسط هذا «التجييش الشعبي والاعلامي والسياسي» يصبح وجود «النّقابات» من أساسه مسألة وقت، حين لا يمكن لأّي جهة أمنيّة (نّقابيّة أو غيرها) أن تقف في وجه ثالوث «الشعب والإعلام والساسة»… عجز بن علي حين انقلب عليه (هذا) «الثالوث» (تدريجيا)، مّما يجعل الجزم قائم بأّن الجماهير ستخرج (كما خرجت يوم 14 جانفي) لتنادي اليوم بمطلب وحيد: «حّل النّقابات الأمنيّة».
تعيش النّقابات الأمنيّة أيّامها الأخيرة، أو هو الفناء المرتقب، الذي قد يبدأ بالتقزيم ثّم القضاء النهائي، وفق نظريّة «اختفاء الديناصورات» التي اعتبرت قوّتها (ضمن قانون الغاب) حينها سلاحها الأفضل للبقاء والدوام، بل للسيطرة والسطوة دون منازع.
لا وجوب للدخول في «نظريّة المؤامرة» والبحث والسؤال، إن كانت «قيادات نّقابيّة» شاركت عن قصد (وبصفة متعمدة) في «نهاية نّقابات متهورة»، لكّن هذه النقابات (أو بالأحرى القيادات أو من ينفخ في أفئدتها) لم يفهم أّن موازين القوى لم تعد كمثل ما كانت سواء على مستوى الشكل أو المضمون:
أوّلا: على مستوى الشكل:
لم تفهم القيادات النّقابيّة والعديد من القيادات الأمنيّة، أن زمن بن علي، ولّى دون رجعة، وأّن الغالبيّة العظمى من العمق الشعبي، صار متجاوًزا لعقدة الخوف، مّما يعني أّن «طاقة الردع» (الاعتباريّة) التي كانت قائمة زمن بن علي، ذهبت دون رجعة.
ثانيا: على مستوى المضمون:
استفادت النّقابات الأمنيّة جّدا، بل وجدت في الصراع بين أطراف الحكم (في السابق) مرتًعا خصبًا لها، سواء لقدرتها على توظيف العمق الأمني أو لما تحظى به قيادات هذه النقابات من صدى في الأوساط الاعلاميّة، مّما جعل هذه النّقابات، ومن ثّمة قياداتها، ترتقي فوق ما هي «نّقابات مهنيّة» أو هي «قيادات نّقابيّة»، لتصير (النقابات والقيادات) جزءا من المشهد الاعلامي والسياسي، في البلاد، بدليل أّن عديد القيادات قّدمت في عديد المرّات على عديد المنابر، قراءات قاسية جّدا للوضع الأمني وأساًسا لأداء وزير الداخليّة ومن ورائه الحكومة بأكملها…
لم تستوعب النّقابات وقياداتها زوال الخوف الشعبي الذي حاولت (بعد الجهات الأمنيّة) إعادة تكريسه، ولم تفهم (بالمرّة) أّن الصراع السياسي الذي «تمّعشت» منه، لم يعد على شكله السابق، بل صارت هذه النّقابات إلى البحث عن «الصراع» معتبرة (وهنا الخطأ الفادح) أّن «استفحال الإرهاب» وكذلك «تردّي الوضع الاجتماعي» سيجعل «القيادة السياسيّة» بين مطرقة الإرهاب وسندان الشعب، وبالتالي (وهنا الغباء) ستنال كّل ما تطلب.
وجب العود إلى عامل تاريخي، على قدر كبير من الخطورة: كما جاءت «الثورة» (فجأة)، نبتت «النّقابات الأمنيّة» من عدم، أّي أنها:
أوّلا: جاءت في بلاد لم يكن أحد يملك مجرّد التفكير أو حتّى الخيال أو ربّما الحلم، في مثل هذه الاشكال التنظيميّة داخل وزارة الداخليّة،
ثانيا: نشأت هذه النقابات دون قيادات «نّقابيّة» (فعلا)، مّما دفع العديد منها إلى الارتجال، أو هو البحث عن أوسع مجال شخصي ونقابي، دون حساب للتوازنات السيّاسيّة أو حتّى قراءة للمشهد المتغيّر على المستوى الاعلامي والسياسي، داخل البلاد وخارجها.
إضافة إلى انعدام العمق التاريخي وغياب التجربة، لم تستطع «المنظومة الأمنيّة» تقديم «الغطاء» المطلوب توفيره، نظير الحصول على (هذه) «الامتيازات»، بل قلبت المعادلة (وهنا مقتل النّقابات)، أّي أنّها لم تجعل من نجاحها (المفترض) في التصّدي للإرهاب والجريمة رأسمالا تقايض به، بل جعلت من المقايضة (الذي فهمتها الدولة «ابتزاًزا») شرطا لمقاومة الإرهاب والوقوف في وجه الجريمة المنظمة.
دون الذهاب في نظريّة «المؤامرة» يمكن الجزم أّن النقابات، جاءت سريعة الظهور، وستكون سريعة الضمور، ليس «الأهّم» (بالنسبة للسلطة السياسيّة) حلّها، بل كسر أنفها وخاصّة تحطيم تلك الصورة التي نالتها «القيادات الأمنيّة» لدى وسائل الإعلام خاصّة.
من الأكيد وما لا يقبل الجدل، سيذكر التاريخ التجربة النّقابيّة الأمنيّة في تونس على أنّها تجربة فاشلة (أو أراد لها «البعض» الفشل)، حين لا يمكن لهذه النّقابات، أنتجد لها موقًعا وفق التوزيع الجديد للقوى في البلاد، خاصّة وأّن «وفاق» النهضة/النداء الذي تحوّل من لعبة سياسيّة، إلى «تبادل مصالح استراتيجي» حّجم دورهاوجعل منها لاعبًا في «الملاعب الخلفيّة»، أّي الصراع الدائر بين الباجي والنهضة من جهة، ومحسن مرزوق من جهة أخرى، مع دخول الجبهة على الخطّ في بعضالمحطات…
نحن أمام إعادة تجسيد لصورة النظام القديم وفق قواعد جديدة، أملتها القواعد الاقليميّة وكذلك «النصائح الدوليّة»، حين لم تفهم «القيادات الأمنيّة» (أو هي أغلبها) أّن «معايير النجاح» لم تعد تلك الذي وضع بن علي وتّم اعتمادها لعقدين أو يزيد.
ظهر هذا الانفصام «الخطير» (جّدا) بعيد عملية باردو الإرهابيّة وكذلك عمليّة سوسة، حين أدركت القيادات الأمنيّة (في الغرب) أّن «العقل الأمني» في تونس ليس فقط «لم يغادر منطقة بن علي» بل يصرّ على البقاء ويسرع في العودة لمجرّد الابتعاد قليلا….
المصدر: جدل