تحاليلتونس

فساد ما قبل وفساد ما بعد الثورة: الشفع والوتر!!!

 

 نصر الدين بن حديد:

  يعتبر عالم الاتصال الفرنسي «إيف أود» Yves Eude، في كتابه الشهير والمرجعي «غزو العقول» La conquête des Esprits، أّن أخطر من التعمية والكذب وتزوير الحقائق وكّل أشكال التلفيق، أخطر منها جميًعا هي «أنصاف الحقائق»، أّي حين يصرّ الإعلام ويذهب إلى أبعد ما يمكن في ذكر «وجه واحد» من التاريخ، ويتغاضى عن وجه أو وجوه أخرى لا تقّل خطورة أو هي تفوق في الخطورة.

أخطر من «نصف الحقيقة»، أن يتّم ربط «نصف حقيقة» مع «نصف حقيقة» أخرى في لعبة شيطانيّة، تجعل المشاهد يرى «النصفين» في شكل «البدر» ليلة كماله أو هي الحقيقة التي لا يجوز مناقشتها.

نصف الحقيقة الأوّل:

هناك حملة اعلاميّة ضخمة تتداول عليها وسائل الإعلام أو هي تشترك فيها، بخصوص «الفساد» الحاصل في البلاد راهًنا، أي ما تعيش تونس من إضاعة للموارد الماديّة وتشتيت للموارد البشريّة وأكثر من ذلك من «استيلاء» على المال العام دون حق، أو (في وجه اخر) عدم سداد ما هو واجب (مثل الضرائب) تجاه المجموعة الوطنيّة.

تأكيد كبير وإصرار أكبر على «الفساد السياسي» أو هو بالأحرى «فساد السياسيين» إن لم نقل «إفسادهم» للساحة السياسيّة، ونيلهم أموال من الخارج، وقبولهم المال (الفاسد) من الداخل أو الاستيلاء على المال العام، خصوًصا….

وجب التأكيد أّن لا أحد فوق القانون، وأّن الفساد فساد كائن من كان الفاعل وكائن من تكون الجهة التي

السباع» (جماعة) كما هو الحال، بل ظاهر وباد للعيان، لمن يملك الحّد الأدنى من «النباهة» أنّها ترقص تقف وراءه، لكن هذه الحملات التي ترتكز وتركّز على «الآن وهنا» لم يسبق لها أن «شربت حليب

على «النغمة ذاتها»، أي تلعب ضمن «حدود» ما بعد الثورة، حين لم تلعب أبًدا ضمن مربّع «محاسبة» أزلام بن علي.

نصف الحقيقة الثاني:

هناك مسعى يشمل القسط الأعظم من الوسائل الإعلاميّة، بوجوب الذهاب نحو «المصالحة» مع رجال «زمن بن علي»، أي (بصريحة العبارة ودون مواربة):

أوّلا: ألاّ تكون المحاسبة سياسيّة، تهّم مسؤولية الواحد منهم ضمن منظومة تدمير الدولة والقضاء على مقوّماتها،

ثانيا: ألاّ تكون المحاسبة «شاملة»، أّي أنّها لن تشمل «الفعل المادي» الثابت بالأدلّة البيّنة،

مّما يعني أنّهم (من باب المصالحة) سيتّم محاسبتهم مع «أرقى درجات التخفيف» عن بعض الجوانب من بعض فعلهم، فقط.

يبدو عندما نضع الشطرين، سويّا، أن هناك من يصف «وزراء بن علي» بأنّهم «رجال دولة»، بل هناك مسعى (محموم) للاستنجاد بهم، بل واعتبارهم «المنقذ من ضلال» (الثورة)، أي من كّل ما جّد بعد 14 جانفي، على صورة «ورديّة» (أقصى ما يمكن) عّما قبل 14 جانفي، وقاتمة جّدا عّما هو بعد هذا التاريخ…

أنصاف الحقائق عندما تخرج من أفواه البسطاء، يمكن أن تكون «مقبولة» على أساس أّن العاّمة قد تأخذهم العاطفة، لكن عندما نرى هذا الجوق المتناغم، يؤّسس لظلاميّة المشهد بعد 14 ويذهب بعضهم أّن «المشكلة» (مع بن علي) كانت «شويّة حريّات» نفهم حينها، حجم هذه «الدعارة» وحجم هذا «المأخور» (الإعلامي) الذي يسعى إلى قلب الحقائق.

الحقائق التي وجب أن نقف عندها:

أوّلا: القانون قانون، والفساد فساد، ولا أحد فوق القانون، حين يتّم تجاوزه، حين لا يمكن لدولة تّدعي الديمقراطيّة أن تؤّسس للعدالة من مفهوم «أنصاف الحقائق»، لأّن المسألة تتأّسس على بعد «أخلاقي» وليس «سياسّي»،

ثانيا: وجب أن نعتبر أّن «فترة بن علي» كانت من الظلام والظلم، ما لا يمكن ولا يجوز التغاضي عنه. وزراء بن علي (ولا أستثني أحد) «أشبه بذلك الديوث» الذي يقبل بطرح «شرف زوجته في السوق» … فقط الفوارق هي على مستوى «الانحناء» (أمام بن علي) مثل العبيد وليس المبدأ ذاته….

ثالًثا: رجال ما بعد 14 جانفي، يتحّملون مسؤولية كبيرة في صنع الوهم وصياغة الكذب وترويج الأمل الكاذب بين الناس.

يمكن الجزم أّن «الجودة» الوحيد التي كان يتقنها بن علي والمجرمين الذين معه، تكمن في صناعة «الصورة البريديّة»، أّي أن ما كان من نجاحات زمن بن كان «كذبة» قضت عليها «الثورة»، وليس «نجاحات» لم يفهمها «الثوّار».

الفاسدون من «العهدين» ملّة واحدة، وفريق واحدة، بل هي «عصابة» وإن تغيّرت الأسماء وتبّدلت الوجوه.

خيانة هي أن ندافع عن «لصوص العهد السابق» تحت «شعار المصالحة»، ونريد ذبح «لصوص هذا العهد» تحت شعار «المحاسبة»

على المستوى الأخلاقي أي في علاقة «الضمير بالسياسة»، لا فرق بين «من خان» (قبل 14) وكذلك «من خان» (بعد 14)، وكّل محاولة تضخيم حقبة على منتهى الصفاقة» وكذلك «قلّة الحياء» دون أن ننسى «انعدام الضمير» والسعي (دون هوادة) للكذب ومن ثّمة العود إلى كرسي الحكم

 لصوص ما بعد 14 جانفي لا يقلّون دناءة وليسوا أفضل من «الرهط الأوّل» استغلّوا الديمقراطيّة وعمدوا إلى خلط الأوراق.

الفارق بين العهدين، أن وزراء بن علي ورجاله، كانوا يستولون جهًرا وقد جعلوا ستاًرا جميلا للاستهلاك الخارجي، في حين أّن وزراء والمسؤولين بعد 14 جانفي، صانعون «الضباب» ليغطي قبيح أفعالهم…

المصدر: “جدل”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق