
نصر الدين بن حديد:
أنّها الوصفة المثاليّة أو هي ذاتها، نعيش شتاء أشبه بصيف 1987، حين صارت السلطة أشبه ما يكون في غيبوبة، مع وضع اقتصادي سي وحالة اجتماعية متوترة، بل ينضاف راهنا تحركات الشارع، خاصّة وأنّ قطاعات عديدة من الشعب التونسي (خاصّة الشباب) تحسّ أمام سلطة لم تعد تملك أيّ سلطة ”اعتبارية” أو أي ”قدرة ردع”…
أخطر ممّا يجري من استشراء للعنف كمثل النار في الهشيم، ما يحسّ به غالبيّة (كمثل صيف 87) من “انعدام” لأيّ “حلّ معقول”، أو (على الأقلّ) ضمان عدم تدهور الأوضاع نحو الأسوأ…
في الحال الأوّل (أي سنة 1987) عمل الجنرال بن علي على تعفين الأوضاع وتعكير الأجواء وكانت له أياد عديدة في كلّ ما جدّ آنذاك من حالات توتّر في البلاد، ضرب بها عصافير كثيرة دون أن يطلق حجرا: حجز ”المجاهد الأكبر” ضمن “مربّع الخوف” وكذلك (وهذا الأهم) صنع ”صورة البطل” الذي يمكنه “انقاذ البلاد”…
نحن نعيش فعلا ليس فقط عصر “صناعة الخوف”، بل تطوّر الأمر إلى “تصنيع الرعب”، حين لا يمكن مقارنة “الارهاب” (القائم راهنا) مع مثيله في صيف 87، ومن ثمّة نحن أمام صورة “شبيهة” مع تأكيد بل تشديد على نقطتين:
أوّلا: نحن أمام شعب (والشباب بصفة خاصّة) يحسّ (عن حقّ أو عن باطل) أنّه ”أسقط نظاما”، ومن ثمّة لم تعد للنظام الحرمة التي كانت صيف 87.
ثانيا: يعتبر “جيل الثورة” أيّ الشباب الذي خرج للشوارع في فترة 17 ديسمبر، أنّ ”الثورة سرقت” من قبل “جماعة” كانت زمن هذا الحراك، إمّا من ”أزلام النظام” (السابق) أو كانت تجلس ”على الربوة”، ومن ثمّة لا تأتي هذه التحركات من أجل مطالب ”اجتماعية” (فقط)، بل هي محاولة ”استرداد”…
خطورة ما يجري في مدن عديدة أنّه:
أوّلا: قابل التوسع ليشمل مدنا أخرى ومناطق أخرى ومن ثمّة يزداد التوتر وربما يصل إلى نقطة يصير فيه ”غير قابل للسيطرة”…
ثانيا: أمام طبقة سياسية مفككة فعلا، وغير قادرة على بلورة الحدّ الأدنى من الخطاب قبل الحديث عن خطط وعن مشاريع، ومن ثمّة لا تستطيع الحكومة القادمة سواء الاتكال على المنظومة الأمنية أوّلا، والسقوط في فخّ الخطابات الجوفاء وثالثا محاولة اطلاق الوعود (مثل الحالات السابقة)…
ثالثا: نحن أمام طبقة سياسية انتهازية (بأتمّ معنى الكلمة) حيث بدأ وسيسعى هذا وذاك، ”ركوب الموجة” أوّلا تسييس القضية ليس رغبة في ايجاد حلّ (بل الأخطر) المزايدة بها…
سيناريو آخر يترقب البلاد، أو هو ضمن الاحتمالبات القائمة وبشدّة:
أن يكون “تعفين” الأجواء الذي سبق له “تبخيس السياسين” مقدمة لما يمكن أن يكون “7 نوفمبر” (جديد) وفق مقتضيات العصر والظروف والحالة الإقليمية والوضع الدولي، أي “كنس” المنظومة التي تضع يدها على السلطة (بتعلاّت شبيهة بما جاء في بيان 7 نوفمبر)، ليتّم القفز من باب ”المصلحة” (الضرورية) فوق “الشرعية” (الديمقراطية)…
الوضع الاقتصادي وعلاقة تونس بالمانحين يأتي أحد أهم المحددين، حين نذكر الوضع الاقتصادي السيء الذي عاشته تونس زمن محمد مزالي وما تطلب ذلك من ”برنامج التعديل البنيوي” Programme d’Ajustement Structurel، الذي ذهب حدّ اشعال ”أحداث الخبز” ليكون بن علي رجل الإطفاء الذي استوعب اللعبة، وواصلها في طاعة عمياء وكاملة لهؤلاء المانحين.
ضمن وضع اقليمي متقلب وملتهب، لا يمكن للشارع أن يتحوّل إلى “الفاعل الأوّل” أو بالأحرى لن تترك القوى الاقليمية والأطراف الدولية هذا الشارع يذهب حيثما شاء دون رقيب أو حسيب، خاصة لا أحد (ممّن يملك قراءة موضوعية) يذهب إلى اعتبار الشارع أكثر من ”مفعول به”…
نعيش لعبة إعادة توزيع الأوراق، شبيهة بما تمّ إثر اغتيال كلّ من بلعيد والبراهمي، حين وجب أن تشكّل الصدمة ما يكفي لترك ”الشرعية” (القائمة) والذهاب ضمن “توافقات” تمليها “ظروف الوضع” أكثر من “مقتضيات الصندوق الانتخابي”…
يمثّل الجيش التونسي احدى الّأوراق المحتملة، التي عوّل عليها الكثيرون ويعوّلون ولا يقطعوا الأمل أبدا، ليكون صامع ”نسخة تونسية” لما جدّ في مصر، خاصّة وأنّ الجيش أثبت منذ 14 جانفي على مستوى الممارسة وكذلك الخطاب، أنّه بعيد (ما يكفي) عن المستنقع السياسي، وثانيا والأهم، لم يغادر الثكنات إلى مواطن العمران إلاّ في حالات الطوارئ وأنّ ضباط الجيش لا يحبذون هذا الدور ”الأمني” وإن كانوا يمتثلون له ويطبقون الأوامر الصادرة على القيادة…
كذلك رغم وجوده على أكثر من جبهة، وامتداد الحدود البريّة والبحريّة، وتعدّد التوتّر بفعل الارهاب، استطاع هذا الجيش أن يحكم التصرّف في ما يملك من رجال (ونساء كذلك) وأن يوّزع المعدّات بطريقة مثلى مكّنت رغم قلّة العدد وضعف العتاد (مقارنة بالدول المجاورة) من أداء متميّز.
إلاّ أنّ دخول الجيش (من باب الانقلاب على السلطة) سيكون له عواقب وخيمة على وضع الجيش ذاته وعلى مستقبله وعلى مستقبل البلاد، وأساسا مستقبل العلاقة القائمة بين هذا الجيش والعمق الشعبي، حين يأتي هذا الجيش في أعلى درجات الرضا والقبول من قبل هذا العمق الشعبي…
يبدو بل هو اليقين أنّ أصحاب ”المطابخ السريّة” يعدّون أكثر من “طبخة” لكن تضارب المصالح بينها أوّلا، وثانيا والأهم ضعف هامش المناورة دى كلّ منها، دون أن ننسى أنّ العمق الشعبي قابل للتحرك في كلّ وقت، يجعل البلاد مقبلة على جميع الاحتمالات دون استثناء.
المصدر : ”جدل – 20يناير 2016″