غير مصنف

الخطاب السائد في تحقير الثورة وشتم شهدائها مآل خسارة معركة الرموز إعلاميا وثقافيا

 بقلم لطفي حيدوري:

           مرّت ذكرى اندلاع شرارة الثورة يوم 17 ديسمبر 2010 ولم يقف خلق كثير على قبر الشهيد محمد البوعزيزي في سيدي بوزيد. بل ربّما لم يلتفت إلى مقبرته أكثر المحتفلين بالثورة في مهدها.
حضرت في منصة الاحتفال هذا العام فادية حمدي الموظفة التي كانت سببا في حادثة الانتحار حرقا. وغابت والدة البوعزيزي عن المدينة بل عن البلاد، وقد تكون تابعت الحفل الماضي من مقامها الآمن في كندا حيث استقرت لتنأى بنفسها وعائلتها عن أذى الألسن القريبة والبعيدة.
انطفأ نجم البوعزيزي مثل لاعب كرة قدم لم يعد صانع ألعاب فريقه أو أبعدته إصابة عن الملاعب واعتزل، فنسيه جمهوره الذي كعادته يعبد رموز الكرة إذا سجلت وقادت إلى الانتصار، ويلعنها إذا خيّبته.
حلّت مكان البوعزيزي وشهداء الثورة لدى النخبة مثقفين وسياسيين وحكاما، رموز جديدة لطفي نقض وشكري بلعيد والبراهمي وقلّة من شهداء أمنيّين اختيروا بعناية موجّهة. أمّا بين الناس، فمن منّا لم يستمع داخل مرفق عمومي تعطلت خدماته أو عند انتظار طويل لوسيلة نقل إلى “مونولوغ” الدعاء بقطع الرحمة عن البوعزيزي الذي تسبب في ذلك؟ ألم تصبح الثورة سبب تكدس المزابل وفواضل البناء؟ إنّهم يقولون إنّ الثورة جاءت بالإضرابات وزيادة الأسعار وزيادة الأجور أيضا وكذلك جاءت بالكوليرا وانقطاع الماء والكهرباء؟ والأهم من ذلك عند البعض أنّ التونسي كان يأمن على نفسه في تنقله من تونس إلى بنقردان ويترك باب منزله مفتوحا ويعفّ عنه السارق! واليوم استبدل التونسي خوفه بطش النظام في جمهورية الخوف وصار يخاف أخاه التونسي ويخاف الإرهاب ويخاف الجارة ليبيا ويخاف الشرق الأوسط… إنّه الذعر بعد الأمن كما يردّد ذلك أشخاص أتقنوا الدور جيّدا ويؤدونه بانتظام في المقاهي وعربات الميترو ومحلات الحلاقة وفي طوابير المخابز والقصابين..
كانت ذروة شيطنة الثورة وتحقيرها نهاية العام المنقضي بحديث الناس عن عودة المخلوع الوشيكة. وهذا الوهم قاد إليه مسار استغرق خمس سنوات فقط.
2011 عام الرعب في غياب المؤسسة الأمنية وتحريض الأحياء والقبائل على بعضها البعض وسنة الإضرابات والمزابل المكدسة نحو الإعلاء من رمزية الاستبداد في صون قيم التعايش والعمل والنظافة.
2012 سنة الحرب الأهلية الكلامية بين السياسيين: تم خلالها تحطيم رمزية السياسة والسياسيين باستخدامهم هم أنفسهم أدوات للمعارك. وضربت في هذه السنة قيمة النضال بالسؤال عن قيمة التضحيات.
2013 معركة كتابة التاريخ: استخدمت قافلة الشهداء الجديدة لسياسيين وأمنيين وجنود لترسيخ شرعية جديدة ونزع أخرى في معركة قوامها الدم والثأر والانتقام، وانتهت معركة الوفاء لشهداء الثورة لتحل محلّها جنائز إسقاط الشرعية.
2014 من إسقاط الشرعية إلى استدعاء الاستبداد: تقام منذ نهاية العام 2013 حتى اليوم دون توقف مع كل جنازة لضحايا الإرهاب موائد الحسرة على الأمن والأمان. وترسخ لدى عموم الناس أنّ الإرهاب عشش في كل زاوية وأنّ تونس على أبواب الاحتلال وأميرها على الحدود.
المشهد بعد خمس سنوات من تضحية محمد البوعزيزي بجسده تلخّصه آلة الدعاية المضادة للثورة في المحطات السابقة. ولم تفلح البراهين الموثقة بالأرقام والشهود والشواهد أو الاعترافات المنقولة عن المذنبين والمجرمين أنفسهم أن ترافع عن الثورة وأن ترسخ في نفوس الناس الاقتناع بجدواها ومسارها, فقد ذهبت قداسة الثورة بتحطم رموزها.
كان يمكن أن تكون رموز الثورة حكاما جددا، فوصموا بخريجي السجون. أو سياسيين جددا فألصقت بهم تهمة التمتع بكلفة أغلى دستور في العالم, وربّما كانت الثورة حرية فصارت رمزا للتعدّي على المقدسات والتعرّي وتحليل الخمر وتجسيد الذات الإلهية، وزعم أيضا أنّ الحرية أطلقت يد الإرهاب بعدما أخرسه الاستبداد.
هكذا غرق في التفاصيل أولئك الذين اعتبروا أنفسهم حراس الثورة ولم يصونوا رمزيتها ورمزيتهم وتخاذلوا في هذه المعركة تهوينا من خصومهم، بل لقد انخرط طيف واسع منهم في تعطيل مآلات الثورة الطبيعية بعد أن فشلوا في أولى اختبارات ثقة الناس، واعتنى كارهو الثورة بتحطيم رموزها شاهدا شاهدا وليس أبلغ من خطاب أحد الفاشلين السياسيين في قصر المؤتمرات الأحد الماضي عندما تحدث عن نتف الطائر ريشة ريشة، تلك صورة معبّرة صدرت عن مهندس كبير داخل المخطط مخطط الطائر المنتوف حيّا، العاجز عن الطيران، المكشوف العورات ثم الجاهز للذبح.
المذبح كان رمزيا تعددت فضاءاته إعلاميا بدرجة أولى ثم ثقافيا وسياسيا. ولعلّ البعض يطمح إلى مذبح حقيقي يطرد روح الثورة ويتخلص من كوابيس رموزها.

المصدر : ”الضمير، العدد 850 يوم 14 جانفي 2016”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق