تحاليلتونس

كيف كان يوم 18 ديسمبر 2010 مفصليا؟ وكيف منحت الثورة الأمل في بناء دولة الشعب؟

علي عبد اللطيف اللافي: 

     مضت خمس سنوات، وتحديدا في السابع عشر من ديسمبر 2010 عندما أحرق الشاب محمد البوعزيزي نفسه ليُغيّر مسار الأحداث. كانت تحكمنا دولة الفساد، ثم أجبر شباب تونس الرئيس المخلوع على الفرار، تطورات ومآلات عدة، أوصلت إلى حل الحزب الحاكم الذي ثار الشعب على فعله وسياساته، ولتنطلق أحلام أجيال في العمل على تحقيق أهداف الثورة الوليدة واستكمال مهامّها الرئيسية، ولكن نتاج تطورات إقليمية وداخلية وبؤس نخب وسياسيين، خُلطت الأوراق وتحركت أساطين الدولة العميقة وأذرع ثورة مضادة كشرت عن أنيابها مبكرا موظفة نتاج أخطاء قاتلة للنخب السياسية، وخاصة تلك التي كانت ردّات فعلها باهتة عشية الثورة، بل يوم 18 ديسمبر 2010 تحديدا، أي اليوم الثاني لأحداث الثورة ومنعرجها الحاسم، فما هي ملامح المشهد في سيدي بوزيد والعاصمة خلال ذلك اليوم؟ وكيف كان احتراق البوعزيزي مُقدمة موضوعية لحلم عودة العرب والمسلمين للتاريخ؟ وكيف أدار الشعب التونسي رقاب العالم؟ وما هي الرسائل الواجب استيعابها اليوم من طرف شباب الثورة  وكل الغيُورين عليها وعلى بناء دولة الشعب بعد أن كرست دولة الاستقلال منطق شعب الدولة؟ 

18 ديسمبر 2010 أو مشهد يوم مفصلي في أحداث الثورة:

ليلة 17 ديسمبر 2010، بعد أن أحرق البوعزيزي نفسه، نامت سيدي بوزيد ليلتها على أحزانها وبداية بطولاتها وعودتها لتقود البلاد نحو إسقاط دولة الفساد، ولكن اليوم الحاسم في تاريخ تونس هو يوم 18 ديسمبر، فقد أفاقت النخبة من غيبوبتها، وانتبهت أنها لم تستجب للمقولة السوسيولوجية “عندما يدخل مجتمع في أزمة يستنجد بنخبته ومثقفيه ليجدوا له الحلول”، على أن صفّ النخبة كان مُمزقا بين الموالين المستفيدين من العطايا النوفمبرية، وبين المغترب والمسجون والمحاصر حتى في تنقلاته، وبين حبيس الايدولوجيا وحرفية أفكار لم تعد تستهوي شبابا مُعطلا ومهمشا ومقصىً عن القرار، وبالتالي استنجد الشعب بشباب يافع يوم 18 الذي صادف أيضا أنه يوم السوق الأسبوعية في سيدي بوزيد المدينة، وما يمثله من زخم عددي، فردّ الفعل وبقوة، بل وأكد لنخبة العاصمة وبعض المدن الساحلية “استفيقوا”، بل وجه موضوعيا سؤالا إلى الأذهان “لم تستفيد النخب من محطات تاريخية، على غرار 3 جانفي 1984، وقبلها 26 جانفي 1978؟”، وبسرعة بدأت التطورات عبر ردّات الفعل؛ إذ استنجد النظام بوحدات أمنية من الولايات المجاورة منذ مساء اليوم الماضي؛ ليطمس ردّات الفعل مثلما تعوّد منذ عقود وفقا لمنطق الإخماد والترهيب والترغيب، فوقعت الصدامات العنيفة أمام الولاية وفي الأنهج والطرق المؤدية إليها، وتم اعتقال العشرات، ووقع الكرّ والفرّ على مدار اليوم، وبدأت في الليل تحركات لم تتعود عليها القوات النظامية التي بدأ بعض أفرادها يحسون ويشعرون بنهاية النظام من خلال طبيعة التطورات والأوامر، وطبيعة ردّ الفعل الشبابي على الميدان، وبالتوازي تحولت أنباء الوقائع وتفاصيلها إلى الشبكة الاجتماعية وسط بهتة النخب التي استفاقت على تطور الأوضاع والوقائع وضعف النظام رغم مغالطات إعلامه ورجاله، وبان جليا أن النخب المعارضة الراديكالية لا الموالية والمدجنة قد انتبهت سريعا، فقد تسارعت يومها بيانات حزب العمال وحركة النهضة وحزبي “التقدمي” و”التكتل” وغيرهما من التنظيمات السياسية التي كان النظام يتعمّد إقصاءها ومحاصرتها، وبدأت مواقع إخبارية ووكالات أنباء عالمية تنتبه للبلد الذي بدأ صناعة الحديث، وجعل التاريخ ينطلق في حركة جديدة نحو تحرر الشعوب من قيودها بعد تحررها من الاستعمار منذ عقود…

أما النخب الموالية، فقد بقيت على نفس سمفونية الولاء والطاعة، سواء كانت نخب الحزب الحاكم أم بعض حُزيبات صنعت للتجميل والتزويق أم جمعيات قُدّت ورُسمت على المقاس، وما راعها إلا ومن تُواليه وهو يحطُ رحاله بالمملكة العربية السعودية مساء 14 جانفي 2011 أي بعد 27 يوما …

+ المشهد بعد احتراق البوعزيزي وسؤال عودة العرب للتاريخ:

رغم أن حادثة الاحتراق يوم 17 ديسمبر 2010 قد سبقتها أحداث مشابهة في تونس بأشهر قليلة، حيث أضرم كهل النار في جسده في الشارع بمدينة المنستير، ومرّ الحدث مرورا عابرا، و في سنة 2009 قام شاب تونسي بحرق نفسه أمام القصر الرئاسي بقرطاج، وعتمت السلطة يومذاك على الخبر عبر تواطؤ إعلامي مشبوه من خلال صفحات الصحف الصادرة يوم 18 ديسمبر 2010، وبذلك مثلت لحظة سكب البوعزيزي البنزين على جسده لحظة فارقة ليس في تاريخ تونس المعاصر فقط، بل في تاريخ العرب والمسلمين جميعا الذين عادوا للتاريخ بعد أن خرجوا منه منذ سقوط غرناطة، وظل اسم البوعزيزي الذي تم اختياره عالميا شخصية سنة 2011 يتردد ملء الأفواه، ولم ينقطع ذكره على الإطلاق، وشاع خبره كمفجر للثورة التونسية ليس في داخل تونس فقط، بل في كل أرجاء العالم العربي والإسلامي، وفي كثير من بقاع الأرض كانت الواقعة سببا مباشرا في تغيير وجه التاريخ، فثار الشباب أولا في تونس، ثم في مصر، ثم في كثير من الدول العربية الأخرى، واستلهم كثير من شباب العالم من الثورة التونسية روحها؛ ليعيدوا إنتاجها في عدد من البلدان، وبالتالي تحولت صرخات المحرومين إلى ما يشبه كرة الثلج التي كان حجمها يزداد كلما تدحرجت أكثر، حتى كان يوم 12 جانفي حيث وقعت المظاهرة التي ضمت عشرات الآلاف في صفاقس، ثم نزول سكان العاصمة إلى شارع بورقيبة في مظاهرة مشهودة، ومحاصرة وزارة داخلية المخلوع لها، ونعتها بـــ”الإرهابية” يوم 14 جانفي،  بل لم تغرب شمس ذلك اليوم حتى وجد حاكم تونس نفسه في الأجواء باحثا عن مكان يفرّ إليه ويختبئ فيه. الأكيد أن محمد البوعزيزي ليس كائنا فريدا ولا مخلوقا عجيبا، بل هو واحد من مئات الآلاف من المحرومين نتاج سياسات دولة الاستقلال بعهديها:

+  العهد البورقيبي ببعض إيجابياته وحيفه الاجتماعي والتنموي….

+ عهد الدولة البوليسية والنوفمبرية بكل مساوئه وطبيعته البوليسية.

فالبوعزيزي شاب فتش مثل الآلاف عن فرص العمل، وهو ضمن جيش جعلتهم دولة بن علي من اليائسين من الحياة، والأكيد أنه لم يدُر بخلده أبدا أن إقدامه على الحرق سيشعل البلاد والمنطقة العربية بنيرانها، لكن هذا الذي لم يتوقعه حصل فعلا، لذلك فإن حادثته تكتسي دلالة خاصة تتجاوز شخصه وتعانق الرمزية في أقوي تجلياتها، وهو عند الله شهيد وفقا لرأي الفقهاء، فهي تندرج ضمن الاحتجاج السياسي والاجتماعي عبر إحراق النفس، والتاريخ المعاصر للبشرية في كدحها المتواصل شهد حادثتين في ستينات القرن الماضي، عادتا إلى الأذهان منذ انطلاق شرارة الثورة التونسية، الأولى في فيتنام عندما أقدم مواطن بوذي في ردّ فعل طبيعي على القهر والظلم الكاثوليكي للبوذيين، وتوبعت بحالات غير مسبوقة من الاحتراق من عشرات البوذيين، وأما الثانية، فهي في العاصمة التشيكية براغ سنة 1969 بمناسبة الاجتياح السوفياتي، ونفذها المواطن “جام باللاش”. والبوعزيزي التقى مع التاريخ ليستشهد ويقدم روحه لشعب طالما غُيب، إلا أنه انتفض ليصنع أسرع ثورة في التاريخ، وأبدع ثورة من حيث الإلهام، فقد أدارت الرقاب إليها، وكان موته واستشهاده لعنة على الحكام الذين لم يتصوروا يوما أن يحتج مُواطن فرد على حكمهم، فإذا بالبلاد شيبا وشبابا تنتفض من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، تعلن نهاية الحيف وتوقف نزيف النهب والسلب والإقصاء والتهميش، وتعيد لمناطق الداخل ذاتها ووجودها وانتماءها للوطن. وأجج البوعزيزي بذلك ثورات عربية مسترسلة أنجزت بعضها نصرها، وتتقدم الأخرى نحو النصر المنشود، وأجندا البقية قيد التنفيذ من طرف شعوب غيبها التاريخ، فإذا بها تعود إليه طامحة في لعب دورها الحضاري الذي طالما صنعته قبل قرون خلت، فابتلوا بحكام وديكتاتوريات مستحكمة نشرت الفساد والخراب وجعلت المواطنين رعايا في دولة، وخلقت شعب الدولة بديلا عن دولة الشعب…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق