تحاليلتونس

لا تتركوا جبل الــــرّماة

Résultat de recherche d'images pour "‫تونس مسيرة الاستقلال‬‎"

جريدة الصباح بتاريخ 16 جانفي 2013

البشير لسيود، باحث جامعي

لاحظت الأجيال التي جاءت بعد الاستقلال بأن هناك حلقة مفقودة في مسيرة استقلالنا، وفراغا كبيرا بين السلطة والشعب، عدوانية مقيتة بين المواطن والإدارة، حقدا دفينا ضد صندوق انتخابي لا ينجب إلا لونا واحدا،وضد قصور عدالة تبحث عن عدل لا وجود له إلا في أحلام يقظتهم، فكبرت الحسرة والألم بين شعار الحرية والديمقراطية المرفوع وواقع مرير فيه إحساس بالظلم والغبن والقهر.

لذلك جاءت عملية هروب المخلوع لتبعث الأمل في النفوس ويتحقق العدل وينشر الحق، لكن للأسف غاب عن العديد منّا بأن المشكلة ليست مع المخلوع أو مع المخلوعة أو مع أصهارهم وأصحابهم وأنصارهم لكن مع قيم عمل البعض على ترسيخها منذ عدة عقود، قيم أنتجت أناسا يفكرون بطريقة تدميرية ضد الآخرين خدمة لذواتهم لاستمرار سلطتهم وتوريثها فكدنا نصبح أمام نظام رئاسي ملكي وراثي لا يوجد في دساتير العالم.

لقد هرب السارق وبقيت عقلية السرقة، هرب الدكتاتور وبقيت عقلية الدكتاتورية التي عشّشت في كل العقول، لأنه «قد يتخلص مجتمع ما من دكتاتور لكن من العسير أن يتخلص من الدكتاتورية» التي ترقد في أحشائنا.

إن شعبنا تعرّض إلى عملية استلاب منظمة وممنهجة باسم التحرر، فسلبوا ذاته وكينونته وخدّروه بالمقاهي والملاعب والرهانات الرياضية لزرع عقلية الربح الوفير واليسير، انتزعوا منه السياسة والأخلاق ليصلوا إلى مرحلة اللاإنسانية الذي لا يخدم إلا مصلحة المخلوع فيجعل همّه في بطنه وشهوته، ذلك هو الإنسان الذي يريدونه، الإنسان المسلوب، المسلوخ، المنسوخ، الممسوخ، لا أصل له ولا أخلاق ولا تفكير له، يتكلم في كل شيء ولا يعرف شيئا، لأنه لا يملك آليات التفكير ولا أصول التربية أو الحوار، لا توجد لديه غير «الأنا» الطّبِْليّة المتضخّمة التي لا تسمع إلا صوتها، بل وللأسف أصبحنا نستمع إلى كلمات سوقية في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، إن ما نستمع إليه أو نقرأه من حين لآخر من كلمات مشبوهة ليست بسبب خطإ تقني أو نطقي أو رقني بل هي عملية مبرمجة من أجل نزع الحياء بين الرجل والمرأة، بين أفراد الأسرة الواحدة.

إن ثورتنا حقيقة، ليست وهما أو حلما، لكنها تتعرّض إلى عملية ترويض وتخريب من طرف خصومها للإجهاز عليها كما أجهزوا على حلم أجدادنا وآبائنا، وإذ لم يكن قادتنا وساستنا والمخلصون لهذا الوطن متفطنين إلى هذا المخطط فإن مستقبلنا محفوف بالمخاطر وإن ثورتنا ستتحوّل إلى دابّة يمتطيها المغامرون.

لقد تعرّض شعبنا للذبح مرّتين الأولى عندما تخلى عن بندقية المقاومة والثانية عندما صدّق كذبة التغيير المبارك التي هبّت رياحه على أوروبا الشرقية، لذا فإن من واجب شباب الثورة أن يكون يقظا وعلى الحكومة والمعارضة والساسة أن يدركوا ثقل الأمانة والمسؤولية ملقاة على عاتق الجميع وبدون استثناء.

لذلك فإنه على الشباب ألا يترك جبل الرماة وما يعنيه من دلالة تاريخية، قصد حماية ظهورنا وأرضنا وسمائنا وبحرنا وشمسنا وشرفنا ومستقبلنا، فليست لدينا غنائم نجمعها أو سفن نمتطيها، ذلك إن أكبر غنيمة نحصل عليها من ثورتنا هي غنيمة القيم الإنسانية الخالدة، قيمة الحرية والذات المفكرة وحرمة الآخر، إن الضمير الواعي هو الضمير الفاعل البنّاء الذي يحمل معاوله بين ثناياه لبناء الوطن وإنجاب الضمائر الوطنية الصادقة، هو ضمير ولود وثدي عطوف، فمن أبجديات الثورة تفكيك أبجديات الدكتاتورية المتجذرة في أعماقنا حتى نصل إلى الإنسان الكوني، العادل، السوّي، الفاعل، آنذاك يمكن أن نفكر في جمع الغنائم، غنائم القيم والمبادرة والفعل والإنجاز لنا ولأبنائنا وأحفادنا، فلا تتركوا جبل الرماة يا أبناء الثورة والحرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق