تحاليلتونس

الديمقراطية التوافقية في تونس كضرورة تاريخية

 

توفيق المديني

 

بعد أن أنجزت تونس ثورتها في بداية سنة 2011، التي كانت ثورة قوّية في صراعها مع النظام الديكتاتوري السابق، بنهجها السلمي وتَفَوُقِهَا الأخلاقي، وبعدالة مطالبها في الحرّية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وقوية بقاعدتها الاجتماعية العريضة التي انخرطت فيها طبقات المجتمع وفئاته وأجياله كافة، وقوية بالتماسك الداخلي للقوى المشاركة في صنع فصولها البطولية، ثم قوية بنفَسها الثوري الطويل الذي لا يكل ولا يتقطع بأثر من عياء، وصلت حركة النهضة الإسلامية إلى السلطة في تونس، وعاد الإسلاميون إلى أورثوذكسيتهم الأيديولوجية الإخوانية التي كشفت ممارسة الحكم عندهم حقيقتان أساسيتان:

الأولى هي فصل جماعة الإخوان المسلمين التقليديّ بين الديموقراطيّة بصفتها مجموعة قيم تُلهم طريقة الحياة والسلوك الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، فرديًّا وجماعيًّا، وتُحدِّدُ مكان الدين في المجتمع ودوره في الحقل العامّ، وتقود إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية ، وبين الديموقراطيّة باعتبارها آليّة انتخاب، تُعَّبِدُ الطريق لوصول الإسلاميين  إلى السلطة، ثم الإنقلاب عليها.

والحقيقة الثانية هي ميل جماعة الإخوان إلى مصادرة تمثيل الإسلام السياسيّ، وبالتالي نزعتها التلقائيّة إلى الانفراد بالحكم، و«أخونة » الدولة رويدًا رويدًا، متسلّحة بقدرتها على تمرير قراراتها «ديموقراطيًّا»،وهذا ما أثبتته التجربة التونسية والتجربة المصرية، وإن بدرجات متفاوتة.

 وبعد تسلم حكومة الترويكا مقاليد السلطة في المرحلة الانتقالية الصعبة التي كانت تمر بها البلاد[2013-2011]، تزايدت موجات العنف السياسي من قبل بعض الجماعات السلفية المتحالفة مع الجناح المتشدد لحركة النهضة الإسلامية، القوة المسيطرة في الترويكا الحاكمة،و اتخذ هذا العنف أشكالاً عديدة. وشهدت تونس أزمة سياسية وأمنية عصفت بالبلاد بسبب الاغتيالات السياسية التي طالت أحد رموز المعارضة في25تموز 2013، فتشكل الرباعي : الاتحاد العام التونسي للشغل ، الاتحاد التونسي للصناعة و التجارة و الصناعات التقليدية، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، الهيئة الوطنية للمحامين التونسيين، الراعي للحوار الوطني في تونس، والذي فاز مؤخرا  بجائزة نوبل للسلام للعام 2015. و لعبت هذه المنظمات الأربع دوراً حاسماً في دفع الفرقاء السياسيين إلى تغليب مبدأ الحوار علي مبدأ المغالبة، و تجنب الاحتقان و الاندفاع نحو العنف و الفوضى. وتقديرًا لدقة وحساسية المرحلة التي كانت تمر بها البلاد في مرحلة الانتقال الديمقراطي، وسعيا للوصول إلى مرحلة المؤسسات الديمقراطية بما يحقق أهداف الثورة، وشعورًا من كل الأطراف بضرورة تغليب المصلحة العليا للوطن، قدمت المنظمات الراعية للحوار الوطني خارطة طريق جسدت إرادة الأطراف السياسية في الخروج من الأزمة، ومثلت تفعيلاً لمبادرتها بعد أن عرضتها وناقشتها مع الأحزاب السياسية.

وبالتزامن مع ذلك،كان اللقاء الذي جمع بين الشيخين الباجي قائد السبسي، زعيم «حزب نداء تونس» الذي كان في المعارضة آنذاك، وراشد الغنوشي زعيم «حزب النهضة الإسلامي » الذي كان يقود حكومة الترويكا آنذاك أيضاً،في باريس يوم 13 آب/أغسطس  2013، هو الذي رسم المشهد السياسي التونسي الراهن ، وهو أيضا الذي أسّس وشكّل المرجعية الحقيقية للشراكة في الحكم بين« النداء و النهضة»،في مرحلة ما بعد الانتخابات التي شهدتها البلاد في خريف و نهاية العام 2014.

تونس تعيش في ظل ديمقراطية ناشئة، و تواجه صعوبات جمة، لأن الثورة ليست الديمقراطية، ولأن الانقسام السياسي والأيديولوجي القائم في المرحلة الانتقالية وما بعدها، يتطلب من الأطراف السياسية ( سلطة ومعارضة ) تبني خيار «الديمقراطية الوفاقية»باعتبارها أحد النماذج المقترحة لإنجاز مهمات الثورة في شروط يطبعها الانقسام المجتمعي. فالمجتمع التونسي الذي يدافع عن هويته العربية الإسلامية بالمعنى الحضاري و التاريخي ، بات يعاني من الإنقسامات على صعيد الهوية و ما يرتبط بها،  بفعل الإنقسامات الأيديولوجية في داخله بين حركة النهضة و التيارات السلفية الجهادية التي تتبنى الأيديولوجيا الإسلامية بصرف النظر عن تفسير وممارسة هذه الأيديولوجيا على أرض الواقع لكل منهما، و بين الأحزاب الليبرالية واليسارية و القومية، وتكوينات المجتمع المدني الحديث، ومجموعات المصالح، ووسائل الاعلام، والمدارس، التي تتبنى منهج الحداثة والعلمانية المنفتحة من دون تعارضها مع الإسلام.

إضافة إلى كل ذلك، تعاني تونس في هذه المرحلة، من ضعف الوحدة الوطنية، وصعوبة الاستقرار السياسي وعُـسر ديمومته، وتواتر موجات العنف السياسي و الإرهاب الذي تمارسه  التيارات السلفية  الجهادية التكفيرية .لذااختار الشيخان الباجي قائد السبسي، رئيس الدجمهورية  التونسية، وراشد الغنوشي زعيم حزب النهضة الإسلامي ، إقامة شراكة في الحكم، بين حزب النداء  الفائز في الانتخابات الأخيرة، وحزب النهضة الذي مني بهزيمة، لكنه حافظ على احتلاله المرتبة الثانية، تحت واقع الإكراهات السياسية و الظروف الموضوعية، لا سيما بعد أن رفضت الجبهة الشعبية الإلتحاق بالحكم وتفضيلها البقاء في الدولة  ضد السلطة الجديدة من خلال الدور البرلماني.

ففي ظل هذا النظام السياسي الانتقالي الذي تتعدد فيه مصادر السلطة، و الذي هو أقرب من النظم الديمقراطية دون التمكن من الوصول إليها، لأن الاستقرار السياسي  الذي يشكل  شرطاً مفصلياًللديمقراطية التمثيلية غير متحقق في تونس، ولن يتحقق هذا الاستقرار السياسي إلا حين يتم التوجه نحو بناء الدولة المدنية الديمقراطية التعددية، و التصدّي بحزم لمواجهة الإرهاب الأصولي عبر فرض هيبة الدولة ، وتطبيق القانون من دون تلكؤ .و هذه الأمور تحتاج إلى تبني «الديمقراطية الوفاقية»، وتشكيل حكومة وطنية وفاقية ومحايدة قادرة أن تحقق السلم المدني، و أن تضمن حيادية دور العبادة عن التوظيف السياسي، وكذلك حيادية الإدارة، وأن تتأسس على المشروعية والفعالية، وتكون قادرة على تقليص العنف المدني وترشيد إمكانيات اللجوء إليه. وهذا ما حصل في تونس ما قبل الانتخابات ، واستمر بعدها في ظل الحكومة الوفاقية الجديدة التي تشكلت في آذار/مارس 2015.

وتختلف «الديمقراطية الوفاقية» عن الديمقراطية التمثيلية،  لأنها لاتستند على عناصر التنافس في البرامج والاستراتيجيات، والاحتكام إلى منطق الأغلبية الحاكمة والأقلية المعارضة، والإعتماد المتواتر على أسلوب الاقتراع أو الانتخاب، بل تعتمد أساساً على مواصفات بناء التحالفات الكبيرة التي تضمن للمكونات الأساسية فرص التمثيل والمشاركة في صنع القرار من أعلى هرمه إلى أسفله، دون الخضوع لسلطة الأغلبية ، إذ تحتفظ الأقلية على حق النقض أو الإعتراض مما يجعل قدرتها في مواجهة الأغلبية وتجنب هيمنتها متاحة وممكنة على صعيد الممارسة ، وهو ما لا تتيحه الديمقراطية التمثيلية، على الرغم من اعترافها بشرعية المعارضة وضمان حقوقها الدستورية في النشاط والعمل من أجل التحول إلى أغلبية بدورها.

فبسبب المشاكل الناجمة عن الانقسامات التي طالت مُكونات المجتمع التونسي، وغياب توافق أو وفاق مُوّحِدٍ، وتفاقم حالة الاحتقان التي بلغت مداها في سنة 2013، لا سيما بعد سلسلة الاغتيالات التي طالت رموز المعارضة اليسارية والقومية،  أسس الشيخان الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي نموذج « الديمقراطية الوفاقية» ليس على تصورات نظرية، مما يعني أنه لا يستقي عناصر نجاحه من تراكمات وخبرات تاريخية كما هو حال «الديمقراطية التمثيلية» الغربية، بقدر ما يستمد عناصر صلاحيته من واقع المجتمع التونسي الذي تعذر عليه ، بفعل ظاهرة الانقسام في نسيجه العام إنجاز الديمقراطية بمعناها التنافسي. فبينما يُعتبر العامل الأيديولوجي السبب الرئيس للانقسام الاجتماعي والسياسي في المجتمعات الغربية، يَرجع الإنقسام في المجتمع التونسي الى الهُوية وما يرتبط بها .و ثمة علاقة بين مصدري الانقسامات [ الايديولوجي والهُوياتي]، وأنهما معا ينصهران في المجتمع التونسي.

لقد شكل الإصرار على صناعة دستور ديمقراطي  يلبى طموح الشعب التونسي فى تحقيق أهداف ثورته في الحرّية، والكرامة الانسانية ،وحقوق الانسان، العامل الحاسم في سيرورة التحول الديمقراطي  نحو بناء الدولة الوطنية، و العامل الحاسم أيضاً في تحقيق سيادة الشعب –رغم أن هذه السيادة لا تزال صورية إلى حدّ بعيدٍ، بحكم التفاوت الاجتماعي الذي لابد أن ينعكس سياسياً، ويلقي بظلاله على برلمان الشعب بماهو مناط السيادة،و بتحقيق المساواة في المواطنة أو المساوة أمام القانون في الحقوق المدنية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية، وفي الحرّيات العامة، و الحرّيات الشخصية. ولذلك كانت الديمقراطية نسقاً مفتوحاً على الصعيدين التاريخي و النظري، ومحكوماً بالشروط الموضوعية و الذاتية للمجتمع المعني. ففي عالم اليوم عدة نماذج ديمقراطية تختلف فيها نسبة عدم المساواة من نموذج إلى آخر، ولكنها جميعاً ديمقراطيات سياسية توفرقوانينها و آلياتها الداخلية إمكانية التحسن و التقدم.

المصدر: صحيفة السفيراللبنانية

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق