
تُفيد بعض المؤشرات المعتمدة من قبل مؤسسات رسمية وأخرى دولية، أن الجزائر وخاصة في ظل التراجع المستمر لأسعار النفط ستواجه وضعا ماليا صعبا قد يُعرضها للاستدانة خلال العامين القادمين، فهل فعلا ستضطر الدولة التي منحت هبات عديدة لجيرانها وأشقائها ومن ساعدت دول على تجنب السقوط، على الاستدانة خلال السنتين القادمتين أو ربما أيضا البحث عن الاستثمارات الأجنبية؟
وضع اقتصادي صعب
تُشير الأرقام الرسمية والمصادق عليها من أهم المؤسسات المالية العالمية، إلى تسجيل عجز في ميزانية التسيير بـ46.7 مليار دولار، بينما بلغت نسبة العجز في الميزانية والخزينة ما يقارب 49 مليار دولار، وإضافة لذلك سجل احتياطي الصرف تراجعا كبيرا في الجزائر فبعد أن كان في حدود 200 مليار دولار في أوت 2014، بات مرشحا للتراجع إلى 130 مليار دولار مع نهاية شهر ديسمبر القادم.
وأفاد البنك المركزي الجزائري الثلاثاء الماضي أن الاحتياطي تراجع من 187.9 مليار دولار بنهاية 2014 إلى 159 مليارا بنهاية جوان الماضي.[1]
استدانة مُؤلمة ضرورية و لا خيارات بديلة في الأفق
وفي ظل غياب بدائل واقعية وممكنة التنفيذ ميدانيا وواقعيا وخاصة على المدى القريب، لمّح الوزير الأول عبد المالك سلال إلى خيار “الاستدانة” خلال لقاء جمعه مع الولاة نهاية الأسبوع الماضي، وهو الاجتماع خصص لمناقشة تداعيات انهيار أسعار النفط، مما سبب تراجعا حادا في مداخيل البلاد التي تعتمد بنسبة 98٪ على عائدات المحروقات.
وقد أثار تصريح سلال جدلا واسعا وانتقادات حادة من طرف المعارضة، التي حمّلت الحكومة مسؤولية الفشل الاقتصادي وتبديد 800 مليار دولار خلال 15 عاما في مشاريع فاشلة حسب رأي المعارضين الجزائريين…[2]
ورغم تلميح الوزير الأول الجزائري عبد المالك سلال إلى إمكانية لجوء بلاده مجددا إلى الاستدانة، فإن وزير المالية عبد الرحمن بن خالفة أكد أول أمس أن بلاده لن تلجأ مجددا إلى الاستدانة سواء من صندوق النقد الدولي أو من مؤسسات أجنبية.
هذا التضارب في التصريحات الرسمية يؤكد حسب رأي عددا من المتابعين حقيقة وعمق الأزمة التي تعاني منها البلاد، وهي التصريحات التي كانت محل انتقاد من طرف رئيس الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية الإسلامي المعارض، لخضر بن خلاف، الذي قال إن “الحكومة لا تصارح الشعب الجزائري، ولا زالت تكذب عليه” حسب نص تصريحاته المنقولة في الصحف الجزائرية[3]…
هل الاستدانة خيار حتمي للجزائر؟
عمليا عدة مؤشرات حتمية تؤكد أنه لا مناص ولا مهرب للجزائر من اللجوء للاستدانة، وهو الخيار الذي يرى المتابعون للوضع الجزائري أنه سيكلف البلاد غاليا وباهضا، لأنه سيفرض عليها املاءات وقرارات تمس ربما حتى سيادتها حسب تصريح عددا من السياسيين الجزائريين، كما ستفرض بالأرقام الاقتصادية عليها نسب فائدة عالية جدا، وطبعا يذكر الجميع الضغوط التي مارسها صندوق النقد الدولي على الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، مما أسفر عن تسريح أكثر من مليون عامل، وإغلاق أكثر من 800 مؤسسة حسب الأرقام الرسمية.[4]
ومن المؤشرات التي تم رصدها حسب المختصين في عالم المال والأعمال:
- تراجع أسعار النفط لأقل من 50 دولارا، و الذي يتوقع أن يصل السعر مع نهاية العام الجاري إلى أقل من 40 دولارا، وهو ما سيتسبب في خسارة الجزائر أكثر من 70٪ من عائداتها النفطية عمليا ….
- تراجع قيمة الدينار لمستوى غير مسبوق منذ الاستقلال، فقد وصل سعر الدولار إلى 104 دنانير، مما زاد أسعار المواد الاستهلاكية، وهي مرشحة لارتفاع آخر يصل إلى 40٪.
- تراجع احتياطي الصرف، والذي سيصل وفق تقديره إلى 125 مليار دولار مع نهاية العام الجاري، وهو ما يكفي -بحسب بن خلاف- لتغطية واردات الجزائر لمدة عشرين شهرا فقط. وتجد الدولة نفسها حينها “عاجزة عن الاستمرار في سياسة الدعم، ودفع رواتب الموظفين، وتبقى الاستدانة الخيار المر الوحيد الذي ينتظر الدولة الجزائرية”.
كل تلك المؤشرات جعلت المجتمع المدني والسياسي في الجزائر في حالة استنفار من حيث قراءة ترتبات ذلك وانعكاساته في ظل وضع إقليمي متطور و متسارع من حيث الوقائع و ترتباتها العديدة، فقد صفت زعيمة حزب العمال الاشتراكي المعارض لوزيرة حنون (أثناء ندوة وصحفية عقدت بمقر الحزب خلال الأسبوع الماضي)، خيار اللجوء إلى الاستدانة مجددا بمثابة “حكم إعدام على الجزائر”، لأن هذا القرار سيضعها تحت وصاية الدول الغربية وصندوق النقد الدولي حسب رأيها طبعا…[5]
الشراكة المالية بمنظور مغاير
في الاتجاه الآخر لبعض تلك الرؤى المتشائمة من تطورات الأوضاع الاقتصادية والمالية، كشف الخبير الاقتصادي عبد المالك سراي أن الجزائر يمكن أن تلجأ إلى الاستدانة لكن بمفهوم آخر من خلال تجنب القروض من دول أجنبية أو من صندوق النقد الدولي، وإخضاع برامجها الاستثمارية للتخطيط أو للتدخل الدولي من خلال الشراكة المالية للمشاريع الاقتصادية الكبرى.
وأضاف سراي مثلا في تصريح لموقع الجزيرة.نت أن فتح رأس مال الشركات الجزائرية -سواء في القطاع العام أو الخاص- أمام رأس المال الأجنبي أمر إيجابي جدا، ويدخل في إطار الذكاء الاقتصادي.[6]
كما أضاف سراي مؤكدا أن المسار المالي الحالي يؤدي حتما بالجزائر إلى طرق أبواب المديونية الخارجية بحلول عام 2018، ولكن الحكومة يمكنها أن تجنب البلاد هذا الخيار من خلال استقطاب الأموال الأجنبية، على غرار ما تقوم به دول مجاورة للجزائر، وأخرى أفريقية استطاعت أن تحقق نسبة نمو 8٪، عكس الجزائر التي لم يسجل نموها إلا 3%….
البنك العالمي يريد نقل تجاربه في مجال الاستثمار
سارع البنك العالمي إلى الإعراب عن نقل تجربته في مجال الاستثمار وتبين ذلك من خلال تصريح نائب رئيس البنك العالمي لمنطقة الشرق الأوسط و شمال إفريقيا حافظ غانم الأسبوع الماضي بالجزائر، حيث أكد أن البنك الدولي يهدف إلى نقل التجارب الناجحة لبعض البلدان في مجال الاستثمار نحو الجزائر، كما أضاف غانم في تصريح لوكالة الأنباء الجزائرية عقب استقباله من طرف وزير الصناعة و المناجم “عبد السلام بوشوارب” أن البنك الدولي يملك العديد من الخبرات مع بلدان في جميع أنحاء العالم سواء أوروبا أو أمريكا اللاتينية أو إفريقيا أو الدول العربية وبالتالي هو “يريد نقل الخبرات الناجحة نحو الجزائر بهدف زيادة النمو الاقتصادي و خلق مناصب العمل خاصة بالنسبة للشباب”.[7]
وأضاف غانم أن هدف المباحثات مع وزير الصناعة هو ” تقوية الشراكة و التعاون الفني بين الجزائر و البنك الدولي و هذا بالبحث عن الكيفية التي يمكننا بها أن نساعد الجزائر في زيادة الاستثمارات” مؤكدا أن “لقاء اليوم كان فرصة لتقييم ما تم انجازه بين الجزائر و البنك الدولي في هذا المجال و ما يجب فعله في المستقبل لحصد النتائج الإيجابية”.[8]
من جهته أخرى أكد الوزير الجزائري أنه قدم عرضا مفصلا للسيد غانم عن مناخ الاستثمار بالجزائر و كل التسهيلات التي وفرتها الدولة منذ السنة الفارطة لفائدة المستثمرين ما أدى “إلى تحسين مناخ الاستثمار في إطار الاتفاقية التي تجمع الجزائر بالبنك الدولي و كذا في ظل سياسة السلطات العمومية في هذا المجال و الهادفة لتطوير قطاعات الصناعة والفلاحة و السياحة”، كما تطرق للتحفيزات التي استفاد منها قطاع الصناعة لتسهيل الاستثمار في إطار قانون المالية و قانون المالية التكميلي ل2015 مؤكدا أن الجزائر ستواصل في سياستها لافتا إلى أن مشروع قانون المالية ل 2016 سيتضمن إجراءات أخرى جديدة لتسهيل الاستثمارات وتحسين مناخ الأعمال.
كما أشار الوزير الجزائري إلى “القفزة النوعية” التي حققها القطاع بعد إزالة المشاكل التي كانت تواجه المستثمرين خصوصا بإلغاء لجنة المساعدة على تحديد و ترقية الاستثمار و ضبط العقار (كالبيراف) ونقل سلطة الاستثمارات إلى يد مدير الصناعة والمناجم المكلف بالاستثمار على مستوى الولاية.
وعمليا هدفت الزيارة إلى التحادث مع عدد من المسؤولين الجزائريين حول تقدم برامج التعاون الحالية مع البنك الدولي وكذا مسائل النمو بالمنطقة.
وضع صعب في ظل متغيرات سياسية داخليا وخارجيا
لا شك أن بلد المليون شهيد سيعيش أوضاعا صعبة خلال السنوات القادمة وسيكون ذلك وسط متغيرات وتطورات متسارعة داخليا وخارجيا:
- داخليا: الجزائر بلد مُستهدف حيث تُحاول قوى وأطراف إقليمية ودولية المس من استقراره الداخلي عبر توظيف المتغيرات الإقليمية ونتاج مواقفه من عدد من القضايا في دول الجوار وهو مستهدف لأنه البلد العربي العصي وبقي مستقرا لسنوات وسط اضطرابات هزت البلدان النامية في كل القارات وهو أيضا أمام تحديات الانتقال السياسي خاصة بعد التغييرات الكبرى التي أجراها الرئيس الجزائري بوتفليقة، و التساؤلات التي ستطرح حول هوية الرئيس القادم وحول التغيرات التي ستطرأ على المشهد السياسي خلال السنوات القادمة وهو ما يعني أن الوضع الاقتصادي سيتأثر بتلك المتغيرات كما أن الوضع الاقتصادية ولجوء الجزائر للاقتراض خلال السنتين القادمتين ستكون له نتائجه الآلية على تغير خارطة التحالفات السياسية …
- خارجيا: لا شك أن تطور الأوضاع في ليبيا أساسا ستكون لها ترتباتها على الجزائر سياسيا واقتصاديا بل و أمنيا، كما أن تطورات الأوضاع في اليمن ومصر وسوريا ستكون لها انعكاسات متفاوتة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الجزائر…
والخلاصة، أن الجزائر التي قدمت هبات لدول عديدة مُجاورة و صديقة ستجد أنها أمام خيارات مؤلمة للاستدانة بعد أن ساعدت دول من الخروج من مآزقها الاقتصادية والمالية طوال أكثر من عقد ونصف …
[1]“مع هبوط العائدات النفطية الجزائر ستضطر للإستدانة خلال العامين القادمين -تقرير للجزيرة نت- بتصرف-
[2] يمكن مراجعة الصحف الجزائرية اليومية على غرار الخبر والشروق، ليوم 15 سبتمبر 2015
[3]تقرير الجزيرة , نت المشار إليه أعلاه
[4] المصدر السابق…
[5] موقع الحزب على الشبكة …
[6]تقرير الجزيرة نت المشار اليه أعلاه
[7]تقرير وكالة الأنباء الجزائرية عن زيارة مسؤول البنك العالم للجزائر الأسبوع الماضي…
[8] المصدر السابق…
ثريا بن محمد
المصدر: مجلة افريقيا المستقبل