
توفيق المديني
من المعروف تاريخياً، أن أكثر ما مَيَّزَ تونس عن كثير من مثيلاتها في العالم العربي، ذلك الترابط بين النضالات من أجل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، والنضالات المتعلقة بالحريات الديموقراطية من أجل بناء دولة القانون وإرساء مجتمع مدني حديث وعادل. وكانت تونس أول بلد عربي يفجر انطلاقة الحراكات الشعبية الشبابية في بدايات ما عرف بـ”الربيع العربي». ورغم مرور أربع سنوات من عمر الثورة التونسية، وبداية تشكيل وإرساء أسس النظام الديمقراطي الجديد عقب الانتخابات التي حصلت في نهاية خريف سنة 2014، فإن المبادرة التشريعية الرئاسية المتمثلة في مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية الذي وافق عليه مجلس الوزراء في 14 يوليو الماضي، ويستعد البرلمان التونسي المصادقة عليه قريبا، عمقت الاستقطاب السياسي والاجتماعي في تونس، وأعادت إلى واجهة الصراعات السياسية والاجتماعية مسألة الصراع ضد الفساد.
لكنّ المفاجئ واللافت للكثيرين في المشهد السياسي اليوم، وهو في الحقيقة تعبير عن القوى التي أفرزتها الإنتخابات الأخيرة، من حزب «نداء تونس»، وحزب «النهضة الإسلامي«، وحزب «آفاق تونس»، وحزب «الاتحاد الوطني الحر»، وهي أحزاب تمثل في مجموعها اجتماعا لمصالح مدافعة عن الرأسمالية الطفيلية التونسية ذات الولادة الهجينة، التي تختلف تمام الاختلاف عن الرأسمالية الأوروبية والأميركية التي أنجزت ثورة ديمقراطية جذرية، من خلال تصفيتها للإقطاع وعلاقات الإنتاج الإقطاعية في المجتمع، وإرسائها لدعائم الدولة القومية وتوحيد السوق المحلية. ومن خصائص هذه الرأسمالية الطفيلية التونسية، أنها لم تبن اقتصاداً وطنياً منتجاً، بل إن كل أنشطتها الاقتصادية تركزت، في مجالات معينة تقع على هامش العملية الإنتاجية، مثل قطاع السياحة، وعمليات الوساطة والسمسرة، والمقاولات والمضاربات العقارية، إضافة إلى الحصول على التوكيلات التجارية، واحتكار منافذ توزيع السلع المستوردة، وتكريس التبعية الاقتصادية والمالية والتجارية الوثيقة تجاه الشركات الكبرى، والاندماج في نطاق اقتصاد العولمة الليبرالية الأميركية المتوحشة، التي تقود إلى تنمية اقتصاد الصفقات، وتفكيك أواصر عمليات التصنيع المحلي واتجاه النشاط في مجالات الاستيراد والتصدير والنقل والمواصلات وغيرها من الخدمات المعاونة.
وعندما تشكلت أول حكومة بعد الانتخابات الديمقراطية من الأحزاب الأربعة آنفة الذكر التي تعتنق نهج الليبرالية الاقتصادية برئاسة السيد الحبيب الصيد، لم تطرح في برنامجها القطع مع منوال التنمية القديم القائم على المزاوجة بين رأس المال الأجنبي مع دولة ما بعد الاستقلال والذي قاد إلى نمو اقتصاد طفيلي ساد في تونس، التي تعيش الآن أزمة هيكلية كبيرة، نتيجة إندماجها، وبدرجة كبيرة، بالرأسمالية الأم في أوروبا وأميركا. بل إن حكومة الصيد جاءت لتسير في منوال التنمية القديم نفسه الذي أثبت إفلاسه التاريخي، ولكي تبرم اتفاقات دولية مع المؤسسات الدولية المانحة: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، تضطرها لفتح السوق التونسية ومجالاتها الوطنية أمام الاستثمارات الأجنبية، التي تبدو الآن في وضع معقد ومربك، ودفعتها الظروف الاقتصادية المحلية، وإسقاطات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية على أوضاعها إلى مزيد من الارتباط بالحكومة الحالية لعلها تسهم في إخراجها من أزمتها.
من هنا نفهم السياق التاريخي الذي جاءت فيه مبادرة رئيس الجمهورية بطرح مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية، الذي جاء على أرضية إسقاط ملف مقاومة الفساد من حسابات حكومة الصيد، حيث أشارت كل الانتقادات الموجهة للصيد إلى أن هذا الأخير تجنب الإشارة من قريب أو من بعيد لمقاومة الفساد سواء في تركيبته الحكومية عندما لم يخصص هيكلا لا في شكل وزارة ولا كتابة دولة ولا حتى مستشارا للاهتمام بملف الفساد كما تحاشى الصيد التطرق لموضوع مقاومة الفساد في برنامجه الحكومي كبند من بنود خارطة طريقه للمرحلة المقبلة.
وهكذا بدت المغامرة الرئاسية التي طرحت مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية الذي يخص تسوية أوضاع أكثر من 7000 موظف و400 من رجال الأعمال المتورطين في جرائم الفساد، ونهب المال العام من خزينة الدولة، غير معنية بمواقف القوى السياسية الديمقراطية، ومنظمات المجتمع المدني، والرأي العام التونسي، الذي يزداد مطالبة بتطبيق العدالة الانتقالية التي لا تعني الانتقام بل تعني في عمقها المصالحة التي تتم عن طريق المساءلة وكشف الحقيقة والتي تمثل بدورها توطئة لتحقيق غايات سامية متعددة الجوانب، كمحاربة الإفلات من العقاب، وردع انتهاكات حقوق الإنسان في المستقبل أو الحيلولة دون حدوثها، وتلبية مطالب الضحايا والدفاع عن حقوقهم، ومحاكمة المرتكبين المشتبه بهم للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الانساني..
ويُعَّدُ مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية ضرباً لهيئة الحقيقة والكرامة واعتداءً عليها وعلى صلاحياتها، ولاسيما على صلاحيات لجنة التحكيم والمصالحة التابعة لها. فمن بين مشمولات هيئة الإشراف على مسار العدالة الإنتقالية، الانتهاكات التي حصلت في مرحلة الديكتاتورية، وتطبيق استراتيجيات مكافحة الإفلات من العقاب أو «العدالة الانتقالية» لا سيما فيما يتعلق بكشف الحقيقة ومحاسبة الفاسدين وإيجاد ضمانات عدم العودة إلى ما وقع في عهد الديكتاتورية وجرائم الفساد ونهب المال العام قبل الثورة، وجبر الأضرار والإنصاف للضحايا، ومطالبة الدولة التونسية بتنفيذ سياسة التنحية، والعقوبات والإجراءات الإدارية الخاصة بالموظفين الكبار والصغار ورجال الأعمال المتورطين في جرائم الفساد. كما يجب على الدولة التونسية أن تشارك في عملية الإصلاح المؤسسي لدعم سيادة القانون واستعادة ثقة الجمهور وتعزيز الحقوق الأساسية ودعم الحكم الرشيد.
تخوض المعارضة التونسية اليوم المعركة ضد الفساد الذي يلتهم 27 مليار دينار من الناتج المحلي الخام (حوالى 14 مليار دولار أميركي)، إذ سجلت تونس خلال السنوات القليلة الماضية تراجعا في المؤشر العالمي لمدركات الفساد من المرتبة 75 إلى المرتبة 79 عالميا. وحذفت حكومة الصيد الحالية من قاموسها السياسي مقاومة الفساد. ولأن الأحزاب الكبرى التي تتشكل منها هذه الحكومة تتجنب الخوض بعمق في ملف الفساد لتجنب الإحراج في علاقتها بالمال السياسي وأيضا في علاقة هذه الأحزاب برجال الأعمال لاسيما المورطين منهم في قضايا فساد. ومثل التعاطي مع ملف رجال الأعمال المورطين في الفساد النقطة السوداء في سجل الحكومات المتعاقبة ما بعد الثورة.
إنّ إخراج البلاد من الأزمة الاقتصاديّة الخانقة لا يمرّ عبر التغاضي عن الفساد وإعادة الاعتبار للفاسدين بقدر ما يقتضي وضع منوال تنمية جديد موجّهة لخلق الثروة وتوفير مواطن شغل، إلى جانب اتّخاذ إجراءات جريئة أخرى أساسا، إعادة هيكلة المنظومة الجبائيّة، إعادة النّظر في المديونيّة، واستعادة الأموال المنهوبة، وفرض ضريبة على الثروات الكبرى، هذا ناهيك عن إصلاحات في قطاع الفلاحة، والتقدم في إحداث خلايا للحوكمة ومقاومة الفساد في صلب المؤسسات العمومية وإدراج مكافحة الفساد في الهياكل التنظيمية للإدارات وكل مرافق الدولة. وجميع الإصلاحات الكبرى المطلوبة في جل القطاعات اليوم على غرار الديوانة والصحة والطاقة والمناجم..الخ تمر في جزء كبير منها عبر مقاومة الفساد والمفسدين. كيف ستوفق الحكومة في مقاومة الإرهاب والتهريب إذا ما كانت وصفة النجاح تمر حتما عبر مكافحة الفساد؟
صحيفة المستقبل اللبنانية، رأي و فكر، الإربعاء16سبتمبر 2015