تحاليلتونس

هل نتصالح مع الفساد بدعوى تشجيع الاستثمار؟  

 

محمد صالح التومي

 

احتدم النقاش فجأة حول ضرورة المصالحة الماليّة والاقتصاديّة بتونس تأسيسا على ما لهذه المصالحة من تأثير احتماليّ على تطوّر حركة الاستثمار خاصّة وأنّ تونس مقبلة حسب المعطيات المقدّمة للعموم –والتي لا يملك أحد آليات للتّثبّت من مدى صحّتها– على أزمة ماليّة حادّة وخانقة بل على انهيار تامّ لكافّة الضّوابط الاقتصاديّة حسب بعض القراءات المفرطة في التّشاؤم.

ولقد أصبح واضحا:

-أنّه مع الموافقة الممكنة على هذا القانون ستنتهي مرحلة كاملة من مراحل التّاريخ التّونسيّ الذي تلا 14 جانفي (كانون الثّاني)  2011، أو هذا ما يقع السّعي إليه على الأقلّ،

-وأنّ العنوان البارز للمرحلة الجديدة سيكون الرّغبة المحمومة في إنهاء عمليّة الالتفاف على انتفاضة الشّعب التّونسي-  التي طالت كثيرا حسب بعضهم – وصولا إلى إسقاط  مطالبه التّاريخيّة العادلة والمشروعة والمتمثّلة:

-في الشّغل، ما يعني العدالة الاجتماعيّة،

-وفي الحرّيّة، ما يعني الدّيمقراطية بكافّة أبعادها،

-وفي الكرامة الوطنيّة، ما يعني سيادة القرار، ورفض أيّ تسلط على مقدّرات بلادنا وخيراتها من طرف قوى الامبريالية المتصهينة،

لقد كانت انتفاضة 17 ديسمبر (كانون الأول) 2010 – 14 جانفي (كانون الثّاني) 2011،انتفاضة باسلة بحقّ، لكنّه في غياب القيادة الفعليّة سرعان ما كان من السهل اختراقها:

أوّلا: من قبل قوى الهيمنة، ونحن نذكّر هنا لتفسير الأمر ببساطة وبدون تحذلق في الكلام، بزيارات السّياسيّين الأمريكيّين (جفري فالتمان وهيلاري كلينتون ونوح فيلدمان) وممثّلي الاتحاد الأوروبي (كاترين آشتون ومن معها) وممثلي الدوائر الاقتصادية والسياسية والجمعيّاتية الألمانية( وهم كثيرون)… الذين توافدوا على البلاد وقدّموا المديح و الإغراءات والوعود الكاذبة والصادقة والقروض والهبات… وهدفهم الوحيد هو المحافظة على آليّات الاستعباد وإبقاء تونس في الكمّاشة بواسطة الكلمات المعسولة التي استمع إليها الجميع آنذاك وهي  تثني على “ثورة الياسمين” وعلى “الرّبيع العربي” وتمجّد حدّ المبالغة دور الشّعب التّونسيّ في وقائعه… وهو “الرّبيع” الذّاهب نحو تفتيت المفتّت وتجزئة المجزّئ مرورا بليبيا ووصولا إلى سوريا…مربط الفرس بالنسبة إليهم في هذه المرحلة مثلما كانت العراق  مربط الفرس لمؤامراتهم من 1991 إلى 2003.

ثانيا: من قبل أرباب المال الفاسد من تونسيّين وقطريّين وسعودّيين وأماراتيّين: – الذين طفوا على السّطح  حال هروب “بن علي” أو تهريبه… وطفقوا يغدقون المال بسخاء على كل ّ فتنة ممكنة ( الصراع القبليّ  والمثال عليه: الصّراع بين “البويحيى” و”الجريدية” بالجنوب التونسيّ، والصّراع العقائدي والمثال عليه : الصّراع المفتعل في أكثر جوانبه بين “العلمانية”؟ و “السلفية”؟ بدون معرفة حتّى لمعاني الكلمتين،والذي أجّجوه بواسطة شريط “بارسيبوليس” السينمائيّ، وبالكتابة على جدران “جامع الفتح” وسط العاصمة،  وبالحركات الاستفزازيّة لإحدى المنتميات لحركة  كاشفات النّهود المسمّاة حركة :”فيمن”،

-والذين اتّصلوا بشخصيّات وأطراف سياسيّة وجمعيّات حقوقيّة وخيريّة من كافّة الأطياف أكانت معارضة سابقة للمستبدّ وعائلته أم تمّ التشجيع على  إنشائها بعد خروجه… وعملوا على احتوائها و توريطها ثمّ تطويعها وتوظيفها…

فكلّ واحد من الطرفين(من الدّاخل ومن الخارج) عمل بصورة سريعة ومتزامنة مع الطرف الآخر على حرف إرادة النّاس وتوجيهها شيئا فشيئا نحو الوجهة التي تخدم المخططات والأهداف المعادية لطموحات الشّعب وهي مخططات وأهداف ذات مسارب ومستويات مختلفة.

وهنا، لقد كان مؤسفا حقّا أنّ حركة الشعب – نتيجة لأسباب عديدة منها القمع دون أن يكون السّبب الوحيد – لم تجد قيادة ناجزة وجاهزة تقودها في اللّحظة المناسبة في طريق المغالبة الثوريّة حتّى تحقيق كافّة أهدافها أو جلّها على الأقلّ، لذلك كان من السّهل السّطو على هذه الحركة وإدخالها بسرعة فائقة في بوتقة الصّراع بين اللّيبرالية الناطقة بالحداثة والمرتبطة إلى حدّ كبير ببؤر الفساد السّابق وبين اللّيبراليّة المحافظة والرّافعة للواء الدّفاع عن الدّين ولكن كما خدم طوال قرون مصالح المترفين والسّلاطين وكما تمّ استعماله من قبلهم بواسطة الفتاوى الخاطئة لقمع المستضعفين والمحرومين… وهما ليبراليّتان متعاونتان مع قوى الهيمنة وبإمكان هذه الأخيرة التأثير فيهما؛ أليست هي التي سهّلت فيما بعد وكما أصبح معروفا لقاء زعيم حزب ” النّداء” ( السّبسي) الممثل الرّسمي للحداثة مع زعيم حزب ” النّهضة ( الغنّوشي) الممثّل الرسمي للإسلام السّياسيّ، بباريس، في صائفة 2013، كما سهّلت التّحالف  البرلمانيّ والحكوميّ بينهما بعد انتخابات 23 أكتوبر(تشرين الأوّل) 2014… (وهو لقاء و تحالف لم يتوقّعه كثيرون لكنّه والحقّ يقال كان مطلّا برأسه رغم تشابك الأحداث وتعقيداتها).

أمّا القوى الأخرى التي اقترحت نفسها لقيادة حركة الشّعب في خضم ّ المعمعة ونعني هنا بصورة خاصّة مكوّنات ما أصبح يعرف بالجبهة الشّعبيّة – التي ولدت بعد سنتين تقريبا من الانتفاضة وبعد تلمّس صعب للطريق على كرّتين فاشلتين تحت مسمّيات أخرى –، فهي ورغم المساعي الجدّية عند التّأسيس لم تنجح في تطوير زخم وطنيّ جديد فكريّا وثقافيّا وقيميّا يفتح لها باب التّفاعل الخلّاق والإيجابيّ مع كافّة قضايا الشّعب، ولم تهتد إلى استراتيجّية متكاملة تنتظم على أساسها كافّة الفعاليّات الشّعبية (من عمّال ومزارعين وشبيبة طلّابية ونساء ومهمّشين)…  في الاتّجاه الصحيح، ما أدّى رغم بعض مواقع القوّة والصّدق والتي بلغت ذروتها بتقديمها لشهيدين من ضمن زعمائها هما الشهيدان شكري بلعيد ومحمد البراهمي…. إلى الارتجال السياسيّ والتّنظيميّ والتّكتيكيّ وإلى التّخلّي في أغلب الأحيان عن سياسة المغالبة الثّوريّة نتيجة ضعف العامل الذّاتيّ،  ثمّ :

-عن وعي وخدمة لبعض المصالح من طرف البعض،(قبول الدعوة من طرف بعض المكوّنات لحضور مائدة الإفطار التي أقامها سفير أمريكا في حين كانت غزّة تدكّ بالقنابل المسلّمة من أمريكا إلى الكيان المعتدي…)

-أو جريا وراء أهداف لم يقع التّخطيط لها بدقّة كافية،(تكوين “جبهة كاملة” للإنقاذ ضدّ حكم النهضة مع… من سيتحالف بعد قليل فقط… مع حزب النهضة)،

إلى الانخراط في نسق المظاهرة أو المماشاة السّياسيّة، وهو نسق خاضع للظّروف ولموازين القوى وبإمكانه أن يسمح بتحقيق بعض المكاسب الكمّيّة ولكنّه يحتاج لنجاحه في هذا المسعى إلى وضوح الرّؤيا وإلى الحذق التّكتيكيّ وإلى التّقييم المستمرّ للأخطاء، وفي غياب ذلك فهو محفوف بمخاطر الانزلاق في كلّ لحظة نحو البؤر التي يمكن أن يدفع لها الخصوم بضغوطهم و بمناوراتهم المختلفة خاصّة إذا كان المنسّق بين مناورات الخصوم  هو مركز القرار الامبريالي الذي يملك الخبرة والإمكانيّات اللّازمة لذلك إخضاعا واختراقا.

إنّ مشروع المصالحة الاقتصاديّة والماليّة – وفي هذه الّلّحظة من تطوّر الأوضاع التي تلت 14 جانفي 2011 بتونس – يجب فضحه وتقديمه على أنّه  مجرّد مشروع للتّغطية على الفساد ومجرّد مشروع يفتح الباب للإفلات من العقاب ومن ثمّة فهو رسالة واضحة تدعو إلى إعادة إنتاج الأوضاع التي كان الشعب قد انتفض ضدّها بل إلى احتمال إعادة إنتاجها بصورة أكثر استفحالا من ذي قبل؛

فتمرير هذا القانون هو عند النّهاية  رسالة مشفّرة إلى وعي الشّعب كما إلى لاوعيه تقول له : إنّ القوى التي انتفضتَ ضدّها استغلّتْ جميع مكامن الضّعف فيك وأعادتْ تنظيم صفوفها وتمكّنت من العودة بشكل جديد إلى جميع “المفاصل” و” المواقع ” التي تمّ ذات يوم “ترحيلها” عنها… أو هي قد تقاسمتْها بعد صراع مرير مع منافسيها الحاملين لنفس أساليبها في الحكم (ثبت هذا بجلاء في فترة حكم الترويكا) مهما اختلفتْ معهم في الغطاء الإيديولوجيّ شكلا ومهما كانوا غير مرغوب فيهم من طرفها أصلا…

فلا كلام بعد اليوم عند أصحاب هذه الرسالة عن استكمال أهداف الانتفاضة أي عن نهج المغالبة الثّوريّة، بل لا كلام حتّى على ما هو أقلّ من ذلك، ألا وهو تحقيق ما يطلق عليه اسم “العدالة الانتقاليّة” التي تندرج في نسق المظاهرة والمماشاة السياسية وهو النّسق الذي يقتضي درجة من المساءلة تكبر وتصغر حسب موازين القوى ودرجة من الكشف عن الحقيقة ودرجة من العقاب الضّروريّ ومن المصالحة المحسوبة بما يخدم أهدافا يقع التفاوض بين القوى الاجتماعيّة حولها (…)

بل إنّ مشروع القانون كونه يرمي إلى إحالة ملفّات الفساد إلى لجنة إداريّة للمصالحة سيتم ّ تشكيلها طبقا لأحكامه سيغلّب بهذه الصفة الميكانيزمات البروقراطيّة وهي الميكانيزمات التي لم  يقع تطهيرها البتّة من المفاسد القديمة لاشتغالها، بل لعلّ تلك المفاسد قد ازدادت رسوخا بما فيها من محسوبيّة ومن تبادل للمنافع على حساب النّاس ومن رشاوى وتهاون بالصّالح العامّ؛

فكلّ ما سبق من شأنه إقصاء القضاء- الذي ورغم أنّه تضافرت قوى عديدة منعت من تطهيره هو الآخر- فإنّ نظره في هذه الملفّات –ولو في ظلّ انخرام ميزان القوى بين الشعب وخصومه – سيفتح الباب عبر الجلسات العلنيّة المغطّاة من قبل وسائل الإعلام، وعبر الإجراءات المضبوطة والمعروفة مسبقا، وعبر مرافعات لسان  الدّفاع،لاطّلاع الناس ولو على أهمّ الجوانب التي يجب عليهم معرفتها، فهذا ما يقتضي الوقوف على الأقلّ من قبل المؤسّسات والفعاليّات عند  سيناريو الحدّ الأدنى أي سيناريو العدالة الانتقالية ما لم تتوفر الشروط للعمل بجدّ على فرض سيناريو استكمال كلّ أهداف الشعب… وهو العمل الأصحّ على الدّوام.

وهكذا فإنّ معارضة هذا المشروع بجميع أشكال المعارضة وكذلك بجميع درجاتها حسب المعطيات الجيو- سياسيّة للصّراع محلّيّا وإقليميّا ودوليّا هي إثبات أمام التّاريخ لأنّ طريق الالتفاف على مطالب الشعب توسّلا بالتّراوح بين أساليب العنف العائدة بقوّة وأساليب المخاتلة والخداع هو طريق مسدود طال الزّمن أم قصر؛

فالامبريالية المتصهينة بمعيّة أزلامها المحلّيّين في كلّ مكان، بدأت اليوم في الترنّح:

-نتيجة أزمتها الهيكليّة المتفاقمة والعصيّة عن الحلّ،

-ونتيجة انفضاح جرائمها التي فاقت كلّ خيال،

-كما نتيجة لبروز قطب جديد ينافسها بجدّيّة على قيادة العالم،ألا وهو قطب دول البريكس المتكوّن من روسيا والصّين أساسا مضافا إليهما الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا،

فهذا ما يفتح الباب للشعوب لإبداع طرق أكثر فاعليّة في الممانعة وفي رسم آفاق جدّيّة للتحرّر من ربقة الاستغلال والهيمنة على غرار ما وقع في أمريكا اللّاتينيّة وفي إيسلندا وما يقع- ولو بصعوبة – في أوروبا الجنوبية (اليونان واسبانيا) وفي بعض دول إفريقيا السّوداء….

فيبقى ختام القول هنا : إنّه ليس مهزوما أبدا من يتمسّك بالحقّ و يظلّ يقاوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق