تحاليلتونس

واقع اليسار التونسي ومستقبله في أفق 2015

 

 

علي عبد اللطيف اللافي

 

          ازداد واقع اليسار التونسي غموضا في الأسابيع الأخيرة، إذ تكرّس التشتت داخله، خاصة بعد إعلان عدد من مناضليه وبعض أحزابه وتنظيماته عن فتح عدد من النقاشات لبناء جبهات سياسية، وهو ما حدا بالمتابعين إلى التساؤل عن ترتبات ذلك على مستقبل وآفاق اليسار التونسي، وطرحت تساؤلات عدة، على غرار هل يُمكن لليسار أن يتجاوز حالة التشرذم والانقسام التي تكرست منذ سنوات رغم الفعل النضالي ومحاولات التوحيد وصدور أدبيات تقييميّة لمساره التاريخي ونهاية تجارب تنظيمية وبناء أحزاب وجبهات يسارية جديدة؟

وهل يمكن لليساريين في تونس اعتماد إستراتيجية مستقبلية تتّسم بواقعية وفاعلية في التفكير؟ وهل يمكن للأحزاب اليسارية توخي أساليب جديدة لتجديد بُنيتها أو ستعمد النخب اليسارية مجددا إلى السقوط في سيناريو 1988؟

  • أقصى اليسار
  • الجبهة الشعبية: ارتباك وتردّد وغموض مستقبلي

           تعتبر الجبهة أهم التحالفات اليسارية في الساحة السياسية سواء من حيث عدد المكونات أم من حيث حضورها الإعلامي والسياسي أم من خلال علاقاتها الداخلية والخارجية، رغم انسحاب سبع مكونات مؤسسة لها، وقد التحق بها عدد من اليساريين المستقلين وبعض الاشتراكيين، و رغم أن الجبهة هي القوة الرابعة في المجلس النيابي، فإن عوامل عدة جعلتها في حالة “احتراب” داخلي وتطاحن بين المكونات وبين مختلف القيادات، وهو ما حدا بعدد من مناصريها إلى انتقادها والتناقض معها في عدد من القضايا والمواقف، بل إن الجبهة ورطت نفسها في عدد من المواقف جعلت بعض المحللين يقولون إن الجبهة أعادت اليسار إلى مربع 1988، وسيكون الخطاب السياسي في الأيام القادمة محددا لمستقبل وحدة الجبهة ولموقعها في المشهد، خاصة بعد تأجيل الندوة الوطنية منذ 7 ماي الماضي وتأجل عقد مجلس الامناء الذي من المنتظر أن يكون قد تم عقده خلال هذا الأسبوع بعد لقاءات ثنائية بين عدد من الأحزاب وبعد أن استطاعت الجبهة أخيرا استكمال الندوات الجهوية…

  • نهاية جبهة ظرفية  و تأسيس أخرى ثورية

          هو ائتلاف ظرفي ويساري جديد، تشكل بمناسبة الانتخابات التشريعية الأخيرة، ولم يحصل سوى على مقعد وحيد، وانتهى بمجرد حصول العبدولي على حقيبة كاتب دولة للخارجية، وبحث بقية المكونات على توحيد التيار القومي، على غرار حزب ثوابت والوفاق الجمهوري والتيار القومي الديمقراطي ممثلا في حزب الجبهة الشعبية الوحدوية (بقيادة عمر الماجري) وعدد من الوجوه الفكرية، على غرار الدكتور توفيق المديني بل انه تم أخيرا تأسيس ما يسمى بالجبهة الثورة والتي تضم حوالي سبع مكونات…

ج – هل يمكن بناء جبهة وطنية ديمقراطية لبعض الأحزاب اليسارية؟

             لم تحدد الأطراف اليسارية اسم الجبهة التي قد يُعلن عن تكوينها في غضون الأسابيع المقبلة، وأكدت مصادر قريبة من أحزاب يسارية (أقصى ووسط اليسار) أن مشروعا أو أكثر قيد النقاش، يهدف في الأخير إلى تكوين جبهة وطنية ديمقراطية موسعة على أن يقع فتح النقاش مع عدد من الأحزاب، وهي ـ حسب تصريحات القيادي بحزب العمل الوطني الديمقراطي عبد الرزاق الهمامي ـ عبارة عن جبهة ديمقراطية واسعة تُعطي نفسا جديدا، وقد يتم طرحها على حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي، والحزب الاشتراكي، وقد شدّد الهمامي في أكثر من تصريح على أن المشروع لن يكون تكرارا للاتحاد من أجل تونس، والمعلوم أن هذه المكونات سبق لها أن خاضت تجارب تحالفية سابقة سواء في المبادرة الوطنية سنة 2009، أم ضمن جبهة 14 جانفي عشية الثورة التونسية، أم ضمن القطب الحداثي قُبيل انتخابات أكتوبر 2011، أم ضمن جبهة الإنقاذ في صائفة 2013، ودائما ما كان التفتت والانحسار مصير كل تلك الجبهات والتحالفات، ولم تجد هذه المكونات الثلاثة الأرضية السياسية المناسبة لتعود بها إلى المشهد السياسي من جديد، وهي أطراف أقرب إلى النخبوية منها إلى الفعل السياسي الميداني، ولن تستطيع أن تكون معارضة فعالة لها قوة ضغط أو أن تحدث توازن في المشهد السياسي التونسي المتطور والمتقلب….

ج- بقية المكونات: غياب شبه كلي وتقييمات قيد الإنجاز

            بقية المكونات هي الأحزاب اليسارية التي رفضت دخول أي من التحالفات اليسارية المعروفة والمشار إليها أعلاه رغم موافقتها المبدئية على دخول الجبهة الثورية، أو غادرتها لسبب من الأسباب، ومن بينها الاشتراكي – الوطد الثوري- النضال التقدمي- تونس الخضراء، وهي أحزاب لم تحصل على أي مقعد نيابي في الانتخابات السابقة، و تتلخص إشكالاتها المستمرة في طبيعة خطابها وحرفيته، وقلّة حضورها شعبيا، ونقص إمكانياتها  البشرية واللوجستية، وأيضا بسبب تغييب بعضها إعلاميا…

 

  • أحزاب يسار الوسط

            قلبت نتائج الانتخابات الأخيرة مشهد أحزاب يسار الوسط رأسا على عقب، وأعادت تشكيله، خاصة بعد غيابها الكلي عمليا في مجلس نواب الشعب؛ إذ لم يحصل بعضها على أي مقعد نيابي، وهو ما يعني أن قوى وسط اليسار وجدت نفسها في بحث مستمر عن إعادة ترتيب بيوتها الداخلية أو خوض عمليات انصهار أو اندماج وبناء جبهات وتحالفات جديدة حتى لا تندثر وتقدر على خوض معارك سياسية مقبلة، على غرار انتخابات المجالس الجهوية والمحلية.

  • واقع وفسيفساء مكونات يسار الوسط

+ حزب التكتل: أصيب بعدد من الخيبات في التشريعية والرئاسية وعلى المستوى التنظيمي، خاصة بعد مغادرة عشرات من كوادره، ولذلك طُرح داخله إعادة تقييم مساره وتجديد الدماء فيه حتى يكون قادرا على تقديم قراءات واقعية مكنته سابقا من التموقع السياسي قبل الثورة وبعدها، وقد بدت مواقفه الأخيرة من قانون المصالحة وعددا من الأحداث وكأنها عودة قوية للساحة…
+ حزب المسار: وهو حزب أغلب قياداته الحالية أقرب إلى أقصى اليسار، بل يُمثل عمليا اليسار الثقافي، وفي الحقيقة ابتعد عن وسط اليسار من حيث تموقعه الفكري والسياسي بعد انضمام قيادات من مؤسسي «الأوطاد» لهياكله، و طرح البعض داخله مراجعة مواقفه وتحالفاته وتقديم قراءة نقدية بعد عدم حصوله على أيّ مقعد نيابي، وهو حزب كثرت تخبطاته بعد تولي سمير بالطيب للأمانة العامة نتاج مواقفه الاستئصالية والمذكرة بمواقفه الطلابية سنة 1979…

+ أحزاب وسط اليسار داخل الجبهة الشعبية: وهي أحزاب على غرار «التيار الشعبي» و«القطب» لم يمكنها وجودها في الجبهة الشعبية من القدرة على تقييم حضورها الشعبي الضعيف، ولا اكتسبت تجربة سياسية أو حصلت على مواقع في المجتمع تمكنها من تماسك تنظيمي، وبقيت نخبوية، وهي أحزاب مجبرة داخل الجبهة على الدفاع عن فكرة تحويل الجبهة إلى حزب سياسي خلال المرحلة المقبلة.
+ حزب المؤتمر من أجل الجمهورية: تضرّر الحزب من تجربة «الترويكا»، ولكنه استفاد من اكتساب جمهور واسع متكون من فئات عديدة ساندت مرشحه في الرئاسية، وستبقى مبادرة «حراك شعب المواطنين» محددا لمستقبل حزب المؤتمر ورافدا لتقييم مسار الحزب مند تأسيسه عام 2001.

+ حركة وفاء: عرفت عددا من التقلبات رغم ثورية مقولاتها وأطروحاتها، فخسرت العشرات من مناضليها، وخسرت المعركة الانتخابية بشقيها الرئاسي والتشريعي، ويسأل عن مستقبل الحركة بعد انسحابها من رهان حراك شعب المواطنين؟

+ التحالف الديمقراطي: الطبيعة النخبوية لهذا الحزب لم تمكنه من اكتساب بُعد شعبي، ولم يستطع كسب انتماء أي فئة شعبية، وبقيت مقولاته كلاسيكية، ولم يتميز خطابه السياسي، والحل الوحيد للتحالف هو الإطار الجبهوي، أو العودة إلى حضن الحزب الجمهوري، أو الالتحاق بحزب التكتل، وسيرتبط مستقبله بمدى نجاح الجبهة الديمقراطية الاجتماعية …

+ التيار الديمقراطي: تمكن الحزب من أن يكون طرفا فاعلا له حضور سياسي وإعلامي مقبول، وتميز فعله السياسي بعدد من المبادرات وقوة خطابه السياسي وتمايزه عن بقية الفاعلين السياسيين بعدد من المواقف المبدئية أو بعدد من المبادرات على غرار مطالبة رئيس الجمهورية بكشف وثيقة 20 ماي التي أمضاها محسن مرزوق في واشنطن…

+حركة الديمقراطيين الاجتماعيين: هي حركة سياسية صغيرة تتمحور على شخص النائب أحمد الخصخوصي، وهي تخوض نقاشا داخليا لتحديد خيارات تحالفها السياسي خلال المرحلة المقبلة، خاصة بعد التحاقها بالجبهة الديمقراطية الاجتماعية…

+ حركة الديمقراطيين الاشتراكيين: هي تواصل لتجربة حركة الديمقراطيين الاشتراكيين في آخر سبعينات القرن الماضي، ورغم الخسائر التاريخية للحركة، فإنها بقيت شكلا تنظيميا لبعض قياداتها التاريخية، وبالإمكان حسن استثمار بقاء بعض الفاعلين في إطارها لحسن التموقع السياسي لاحقا، ولتكون طرفا فاعلا في بناء جبهة سياسية مع مكونات سياسية قريبة منها.

ـ حركة الشعب الناصرية: فقدت حركة الشعب العديد من قياداتها التاريخية التي كانت فاعلة في الحركة الطلابية التونسية رغم حصولها على 3 مقاعد نيابية، ثم انشق كل من حزب الغد بقيادة عمر الشاهد أو التيار الشعبي (بقيادة الراحل والشهيد محمد البراهمي الذي يقوده حاليا زهير حمدي)، ويتحدد مستقبلها بحسن تموقعها السياسي في المرحلة المقبلة وحسن قراءتها لموازين القوى أو ودورها داخل الجبهة الديمقراطية الاجتماعية…

  • أحزاب يسار الوسط

تدرك كلّ الأحزاب الوسطية أنه بعد زلزال الانتخابات الأخيرة،  لم تعد الديمقراطية توفيقية أو تلفيقية فهذه الشطحات اليسراوية باتت مستهلكة مستنفدة، وأنها لن تتبلور هذه الديمقراطية إلا عبر الصراع والتناقض وليس عبر توافق طوباوي مفترض، أو تسويات سياسية تعيد إنتاج النظام السابق.

بل إنها في حاجة إلى اجتراح مشروع مجتمعي جديد خارج عن الاستقطاب الثنائي (النهضة ونداء تونس) يكسر البنى التونسية التاريخية المتكلسة، ويمهد لفكر ديمقراطي جديد، ويحقق أهداف الثورة التونسية، وإن وجود تلك الأحزاب مرتبط باقترابها من المواطن والتفاعل مع آلامه ومشاغله اليومية.
ومن ثمّ، فإن كل المبادرات يجب أن تصبّ في اتجاه توحيد أحزاب ومكوّنات وسط اليسار في إطار جبهة واحدة، وفي حد أدنى تكوين ثلاثة أحزاب أو ائتلافات قوية؛
فالتكتل والجمهوري وحركة الشعب والتحالف الديمقراطي بإمكانها تكوين حزب قويّ يجمعها، أو رابطة أو جبهة حزبية لخوض المعارك القادمة؛ لأن ما يجمعها أكثر مما يفرقها، بل بإمكانها ضمّ عدد من المكونات الحزبية الصغرى.

والمؤتمر وحركة وفاء والتيار الديمقراطي وحزب البناء الوطني بإمكانها أن تكون حزبا قويا أو حراكا قويا، خاصة في ظل مبادرة “حراك شعب المواطنين” التي ستتبلور نهائيا في الخريف المقبل، بل بالإمكان ضم مكونات أخرى من وسط اليمين، على غرار حزب الأمان وعدد من الناشطين في المجال السياسي والثقافي الذين تتماهى أفكارهم وأنشطتهم مع أطروحات أحزاب المؤتمر والتيار والأمان.
ويمكن للأحزاب والمكونات القومية العربية المحسوبة على يسار الوسط، كحركة الشعب وحزب الغد وأحزاب أخرى تنتمي إلى التيار القومي، أن تخوض نقاشات جدية لتكوين قطب قوي مع بعض مكونات وسط اليسار ووسط اليمين على أن تعيد تقييم تجربة التيارات الناصرية والبعثية التي لم تعد واقعيا تستجيب في قراءاتها الكلاسيكية لتحديات الواقع الحالي.

  • يساريو النداء:

               انضمت للنداء منذ تأسيسه العديد من وجوه أقصى اليسار، وأصبحت قيادات مركزية نافدة، مثل محسن مرزوق ولزهر العكرمي وخميس كسيلة وبشرى بلحاج حميدة، وأيضا يتموقع في قيادة الحزب بعض الوجوه التي تدعي انتسابها إلى التيار الحداثي، على غرار سعيدة قراش وبعض قيادات سابقة من حركة التجديد (حزب المسار حاليا) على غرار المدير التنفيذي للحزب حاليا بوجمعة الرميلي و مهدي عبدالجواد…
وقد عمل كل من البكوش وكسيلة على ضمّ العديد من اليساريين، وخاضوا صراعات مع الشق التجمعي الذي يسم نفسه بالدستوري، وتم ترحيلها إلى المؤتمر القادم، كما أن أغلب النقابيين المُلتحقين بالحزب منذ تأسيسه هم من اليساريين، على غرار الصحراوي والغضباني ومصطفى بن حمد، ومع ذلك هُمّش اليساريون في التنسيقيات الجهوية وفي القوائم الانتخابية؛ فقد أسندت رئاسة أغلب القوائم إلى وجوه تجمعية ودستورية، ولكنهم تداركوا أمرهم في التعيينات المركزية والجهوية والمحلية، ويبقى مستقبل يساريي النداء في الحزب مفتوحا على كل الخيارات في أفق المؤتمر الأول والتأسيسي رغم تعيين مرزوق أمينا عاما منذ ماي الماضي واستقالته فعليا من الرئاسة وتفرغه للحزب،  والسؤال هو: هل يعيد يساريو النداء سيناريو 1988 عندما وظف بن علي عددا من اليساريين لخدمة أجنداته والتصدي للإسلاميين وقمع كل المعارضين، مقابل توظيف بعض اليساريين يومها ماكينة الدولة لخدمة أجنداتهم الثقافية والاستئصالية؟

وعمليا لم يعد يساريو النداء وحدة متكاملة فالخلاف بين البكوش ومرزوق أمر بين وجلي وواضح للجميع حتى أن البعض يؤكد أن مرزوق يرغب في رئاسة بشرى بلحاج حميدة للحزب مسقبلا بين أصبح وزير التربية مرشحا محتملا للأمانة العامة خلفا لمرزوق والذي تم إسقاط قائمته في حركة الولاة الأخيرة…

  • أي مستقبل لليسار في أفق الخمس السنوات القادمة؟

رغم تكرّس التشتت داخله، فإنه يُمكن الجزم بأن مستقبل اليسار سيرتبط بعوامل عدة، من بينها:

– ضرورة اعتماد منهج يتّسم بالواقعية والفاعلية في التفكير وفي النضال، والإقلاع عن منطق شيطنة الخُصوم السياسيين بغض النظر عن هوياتهم الفكرية، وحتى يمكن تحقيق أحلام أجيال من مناضلي اليسار والاعتماد على خبرة ورؤى المناضل الكبير جلبار النقاش وأمثاله من المناضلين….

  • ضرورة أن يتمكن اليساريون من تجاوز حالة التشرذم والانقسام، خاصة أنّ مُبَرّرات الانقسام لم تعد مطروحة بين عدد من الأحزاب والتنظيمات واليساريين المستقلين…
  • إن اليسار ليس الجبهة الشعبية ولا يساريي النداء ولا هو أقصى اليسار فقط، بل هو عدد من اليساريين المستقلين الذين عُرفوا بمواقفهم الوطنية والاصطفاف مع قضايا الشعب ومع الملفات الحقوقية الحارقة..
  • أن يلعب يسار الوسط دوره، فهو الوارث الحقيقي لليسار، وأن يجري تقييمات حقيقية، وأن يعمد إلى المساهمة الفعلية في بناء المشروع الوطني المستقبلي ونحت مستقبل لليسار التونسي في نسخته الثورية القادرة على البناء بدل الهدم، وحتى ينحت مع بقية الأحزاب والتنظيمات التونسية ملحمة بناء دولة الشعب لا شعب الدولة مثلما حلم بذلك بن جنات وبن خذر وغيرهم.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق