
علي عبد اللطيف اللافي
دون الدخول في جدل يدور منذ سنتين في الساحة العربية بخصوص ظهور داعش في العراق وسورية ومن يقف وراءه، وما هي هوية مؤسسيه وما هي ولاءاتهم الحقيقية والخفية، ودون السقوط في نظرية المؤامرة المحببة للبعض، فإن أسئلة موضوعية تطرح عن حقيقة تنظيم داعش في ليبيا لأسباب عدة، من بينها:
كيف ظهر التنظيم في ليبيا؟ أو بالأحرى من وضع بصماته تحديدا؟
لماذا تم تفعيل داعش في الأسابيع الأخيرة مع قبول المؤتمر الوطني بالالتحاق بالمفاوضات مجددا رغم تحفظاته السابقة؟
وأخيرا، ما هو مستقبل تنظيم داعش في ليبيا في حالتي نجاح أو فشل تشكيل حكومة التوافق الوطني؟
ظهور التنظيم و بصمات البعض عليه
شكل الظهور العلني لداعش عبر فيديو مرعب لعملية إعدام وذبح 21 قبطيا مصريا منذ أشهر في مدينة سرت بطريقة أقل ما يقال عنها أنها هتشكوكية، وهو ما عُدّ يومها إعلانا رسميا لظهوره، وتبين للجميع أن الهدف هو تغيير خارطة الصراع بين القوى المتفرقة في ليبيا، بل كان الهدف واضحا وجليا، وهو التمهيد لإسقاط حكومة الإنقاذ في طرابلس أو دفع المجتمع الدولي للتدخل المباشر، ولكن كيف تطور وجود التنظيم الإرهابي في ليبيا مرحليا:
شبهة ارتباط بعض الليبيين بتنظيم الدولة: يمكن الجزم بأن أول ارتباط بين بعض الجهاديين الليبيين وبين تنظيم الدولة من خلال استحضار معلومات سابقة تقول إن الكثير منهم توجّهوا إلى العراق في سنة 2003 للجهاد ضد غزو التحالف الدولي للعراق، فقد انضم العديد منهم إلى مجموعات قتالية مختلفة، على غرار مجموعة الزرقاوي التي كانت نواة أولى لداعش..
الارتباط الثاني لبعض الليبيين بالتنظيم: ويعود الارتباط الثاني إلى التاريخ الذي انتشرت فيه داعش في سوريا، فقد توجه العديد من الليبيين إلى سوريا للقتال ضد نظام الأسد تحت ألوية كتائب وتنظيمات مختلفة أبرزها “تنظيم الدولة الإسلامية” و”لواء الأمة” و”جبهة النصرة” و”كتيبة عمر المختار”، وقد برز بعضهم في المعارك القتالية، إضافة إلى التنسيق وجمع التبرعات بغضّ النظر عن هوية الجهة المحركة والمتحكمة في التسفير والأجندات والتوجيه…
ارتباط بعض الليبيين بداعش بعد إعلان خلافة البغدادي: تباينت مواقف التنظيمات الجهادية من إعلان تنظيم داعش رجوع دولة الخلافة ومبايعة البغدادي، وهو أمر مرتقب، إلا أن الأمر لم يعد كذلك بعد رفض تنظيم القاعدة الإعلان، ولم تكن ليبيا خارج السياق؛ إذ تباينت المواقف، وأعلن البعض انضمامه وإن كانت نسبتهم قليلة جدا نتاج صدور ورقات تنظيمية وفقهية في الاتجاهين لعدد من المجموعات والتنظيمات…
مبايعة البغدادي في درنة: كان واضحا أن موضة داعش قد دخلت ليبيا منذ بداية إعلان الخلافة، فقد أعلن الكثير من الشباب تأييدهم للبغدادي، لكن لم يكن هناك موقف رسمي إلا حينما أعلنت مجموعة من الشباب الجهادي تنظيم حدث كبير في درنة ليعلنوا فيه مبايعتهم لتنظيم الدولة، بل نظم البعض عرضا عسكريا يومذاك رغم رفض تنظيمات جهادية واعتراضها، ووصل التباين لاحقا إلى المعارك المسلحة بين الطرفين..
تباين المواقف داخل “أنصار الشريعة”: الأكيد أن تنظيم أنصار الشريعة في مدينة بنغازي لم يبايع البغدادي خليفة، أي أنه لم يصبح تابعا لتنظيم الدولة رسميا، لكن من المؤكد أيضا أن هناك الكثير منهم يؤيدون داعش ويؤمنون بها وإن كان تأثيرهم ضعيفا، وعددهم قليلا جدا…
أنصار الشريعة في مدينة “سرت ” وأجندات أنصار القذافي:
يعرف كل المتابعين أن الجهاديين موجودون في شرق ليبيا لا في غربها، إلا أن إعلان مجموعة تحت مسمى أنصار الشريعة في مدينة سرت الليبية سنة 2012، وهو ما طرح سؤالا كيف لتنظيم ديني في ليبيا بالذات، إن لم يكن مُركبا أو مُخترقا أن يقوم بعمليات نهب وسرقة لبعض المصارف داخل سرت. وزاد الأمر ريبة تصريحات أحمد قذاف الدم التي يشكر فيها شباب تنظيم داعش. وفي الأسابيع السابقة لعمليات الإعدام انتشر حديث في ليبيا مفاده أن أنصار العقيد يُريدون كسر شوكة مدينة مصراتة أي روح الجهة الغربية المدافعة عن ثورة فبراير ومكتسباتها حسب رأيهم، وهو ما يردده أنصار القذافي في مصر وتونس ومالطا في أحاديثهم وملتقياتهم بوضوح شديد…
مواقف مختلف الأطراف الليبية ومسؤولياتها في ظهور داعش
حفتر وأنصاره وخطة أنصار القذافي
بالنسبة لعملية الكرامة، فإن وجود الإرهاب في ليبيا أمر محسوم من وجوده منذ أول يوم، بل إن حفتر ادعى أن عمليته تقوم من أجل محاربة الإرهاب، وجمع كل خصومه تحت هذه الصفة، والتقى مع حلفائه في الخارج وتلقى دعمهم بناء على ذلك، حتى أنه لا يجد غضاضة في الربط بين خصومه وداعش، وهو الأساس الذي تلقى لأجله الدعم من مصر منذ أول يوم؛ فقد صرح اللواء صقر الجروشي (رئيس أركان القوات الجوية) في مقطع فيديو بُث يوم 17 فبراير 2015 بأن مصر مدت قوات الكرامة بـ 400 حاوية من الذخيرة، كما أن التنسيق الذي حدث بين قوات الكرامة والجيش المصري في الضربات الجوية التي قيل إنها وجهت إلى معاقل داعش في درنة في اليوم اللاحق لإعلان داعش إعدامها للأقباط المصريين، وهو ما طرح أسئلة عدة، خاصة وسط التشكيك في طريقة الإعدام ومكانها وتوقيتها وأهدافها…
فجر ليبيا، إنكار وتراخ، ثم إقرار فقرار
رغم الأدلة الواضحة، إلا أن طرف فجر ليبيا تراخى في البداية لأسباب عدة، بل إنه لم يستوعب عقله السياسي طبيعة التطورات التي حدثت للتيار الجهادي في المنطقة ووقوعها تحديدا ـ أي التيارات الجهادية الليبية ـ تحت منطق التوظيف ضد الثورات، وتحولها إلى أداة في يد قوى إقليمية ودولية لحرق ثورات الربيع العربي عموما، وقد رفضت حكومة الحاسي في البداية التصريح الصريح بوجود الإرهاب في ليبيا بشكل عام، وبوجود داعش بشكل خاص، ورغم ما سمي بعملية فندق كورنتيا التي أعلنت داعش مسؤوليتها عنها، وكذلك عملية حقل المبروك النفطي التي اتهمت فيها فجر ليبيا بالتقرير الرسمي الذي أعده مدير الحقل بشأنها، لكن بعد فيديو 21 قبطيا مصريا سارعت حكومة طرابلس إلى التنديد والتصريح بوجود الإرهاب في سرت، بل سارعت عدد من الكتائب الموالية لفجر ليبيا في مدينة مصراتة إلى سرت لإعادة السيطرة عليها وفكها من عملية احتلال داعش للمصالح الرسمية التي بها .
وهو ما حدث فعليا، فوجدت حكومة الغويل (الذي عوض عمر حاسي) نفسها أمام مطبات جديدة؛ فقد انتقل التنظيم الدموي إلى القيام بعمليات قريبة من مصراتة، وتوضحت أهدافه المعلنة، وهي الـتأثير على جلسات الحوار الصعبة في مدينة الصخيرات المغربية، ومن أجل تمكين أنصار القذافي وحلفائهم من دخول طرابلس وشق وحدة القرار في مدينة مصراتة نتاج طبيعة الخسائر المتكبدة على الأرض والاستهداف المستمر لأبنائها تحديدا في الجبهات ….
التطورات الأخيرة وداعش تحت الطلب وفي الوقت المطلوب:
أربكت قدرة المؤتمر الوطني في الجهة الغربية على مجاراة نسق تطورات الأحداث وتعقيدات الحوار تحت مسؤولية البعثة الأممية رغم الانحياز شبه الظاهر من ليون ـ حسب أنصار المؤتمر ـ إلى حكومة طبرق وعدم أخذها بمقترحات عدة، ورغم التباين الداخلي في الجهة الغربية تجاه المسودة الرابعة، وتوازى ذلك مع معارك خاضتها داعش في درنة ضد ثورا درنة، والمشكل أنه في اللحظة التي حُوصر فيها داعش هناك وطورد خارج أسوار درنة تم قصف خصومه ومحاربيه من طرف قوات “الكرامة”، وهو ما آثار عددا من التساؤلات ونقاط الاستفهام عند المتابعين في الداخل والخارج الليبي …
وبالتوازي مع ذلك في بنغازي بعد أن عجزت قوات الكرامة عن الدخول إلى بنغازي والحسم الميداني الواضح؛ نتاج صمود قوات “وسام بن حميد” وثوار بنغازي القريبين من فجر ليبيا، ظهرت أجندات قتالية، وبرز انتشار قوي لداعش في سرت وسيطرته على المطار وأماكن استراتيجية في المدينة وسط حضور لوجستي لهم في أطرافها، بل إن الأغرب أنه كُلما تطورت المفاوضات نحو أمل التوصل إلى اتفاق نهائي في تشكيل حكومة التوافق الوطني، زادت داعش في سرت في حضورها الميداني، وتعمدت ارتكاب جرائم فظيعة على الأرض، وإن فعلها مرتبط برفض مطالب داخل الحوار أو إنقاذ طرف منهزم ميدانيا في الشرق، وهو ما اضطر أحد نواب الحكومة في طبرق للدفاع عن أجنداتها في وقت سابق بشكل صريح …
ورغم ذلك فإن جميع الأطراف مسؤولة عمليا عما جد في سرت؛ إذ لم تستوعب تلك الأطراف هول ما صمتت عنه وتجاهلته وسط رغبة في توظيف ما يقع في سرت لمصلحتها، ولكن المتابعين انتبهوا، وكأن الهدف الواقعي هو جر مدينة مصراتة وكتائب حكومة طرابلس إلى معارك ميدانية أو توريطها هناك وتخفيف العبء عن حفتر ورجاله في بنغازي بعد فشله في تحقيق أجنداته منذ أكثر من سنة، وقد ردد مرارا أنه سيدخل بنغازي، ولكنه لم يدخلها رغم أنها تحولت إلى مدينة منكوبة تسود فيها روائح الجثث والمواد الغذائية المعفنة في حاويات الموانئ ولا تجد أثرا للحياة فيها، وسط هجرة مستمرة للعائلات والأفراد…
وبدا لكل المتابعين أن الهدف مما يقع في سرت هو رغبة البعض في إعادة الأمور إلى مربعات سابقة وسط الحديث عن رغبة أطراف قريبة من أنصار القذافي في تولي سيف القذافي شؤون البلاد أو فرض أجنداتهم في الحكومة المنتظرة وتولية قريبين منهم في الحكومة الجديدة، وخاصة في إدارة الجيش الليبي مستقبلا…
كما دعت حكومة طبرق إلى عقد جلسة للجامعة العربية بهدف تمكين الجيش من أسلحة جديدة ورفع الحظر عن تسليحه وسط تشكيك البعض في تلك المطالب والقول إنها لتحقيق أجندات بعض القوى الإقليمية المتهمة بدعم الثورة المضادة في ليبيا حسب رأي خصوم حفتر وقيادة ما سمي بعملية الكرامة المدعومة من طرف حكومة طبرق والقول بتدخل عربي حاسم …
ولكن يبقى السؤال هو دعم من؟ ولمصلحة من؟ وضد من تحديدا؟ فإذا كان الهدف هو محاربة داعش في سرت، فهل ستنتهي المهمة هناك، أم لها ما بعدها؟ وهل سيستعمل السلاح لحسم الصراع بين طرفي النزاع الذي ابتدأ منذ أوت 2014 …
أي مستقبل لداعش في حالتي النجاح والفشل في تشكيل حكومة التوافق الوطني:
لا شك أن قطاعا عريضا في الشارع الليبي يرغب في الوصول إلى حل ينهي مأساة البلاد، خصوصا في ظل الأجندات العديدة من وراء إبراز وتقوية “تنظيم الدولة” الذي يهدد الجميع داخل وخارج ليبيا، ويعي الجميع أن هذا التنظيم يحمل أجندة مشبوهة وعليها عدد من نقاط الاستفهام يعيها حتى المواطن العادي، خاصة بعد سيطرته على سرت، بل هو تنظيم يسعى للتمدد شرقا نحو الموانئ النفطية، وجنوبا نحو منابع النفط، وفي تحالف مشبوه مع أنصار القذافي الذين رفعوا مؤخرا الرايات الخضراء وسط المدينة تحت رقابة ونظر الدواعش، كما فعلوا ذلك في بنغازي منذ أسبوعين …
ولا يختلف اثنان ـ كما بينا أعلاه ـ في تقييم مفاده أن هذا التنظيم صنيعة واضحة، وهو مركب ومهيأ لإعطاء مبرر للقوى الدولية لغزو ليبيا تحت ذريعة مقاومة الإرهاب في حال الفشل في الوصول إلى حل سياسي يبني الدولة من جديد ويجلب لها الدعم الإقليمي والدولي…
وسيبقى مستقبل التنظيم مرتبطا بإرادة المجتمع الدولي والبعثة الأممية في غلق الملف الليبي عبر السعي لتشكيل حكومة وحدة وطنية يجد فيها الجميع أنفسهم مشاركين في بناء ليبيا الغد، مع ضرورة إجراء مصالحة تُراعي التوازنات وجميع الأطراف بما فيهم أنصار القدافي أولا؛ لأنه لا مصالحة حقيقية صادقة تسثني أي طرف، وباعتبارهم ليسوا وحدة متكاملة ثانيا. والخلاصة أنه لا مستقبل لداعش في ليبيا نتاج عوامل تاريخية وسوسيولوجية عديدة في كلتا الحالتين:
- فإذا تشكلت الحكومة برضا الجميع، فسيبقى هذا التنظيم ضعيفا عدديا وميدانيا، ولكنه سيكون أداة لقوى إقليمية ودولية ضدها لتبقى ضعيفة وغير ذات سيادة على عدد من الملفات في الداخل والخارج مع نسبية ذلك الطرح.
- إذا ما فشلت البعثة الأممية في تشكيل حكومة التوافق، فإن ليبيا ستدخل سيناريوهات غامضة وخطيرة قد تؤدي إلى الحرب الأهلية، وهو ما سيهدد كل المنطق، وستكون كل السيناريوهات ممكنة، وعندئذ سيستعمل وسيدار لتدمير حتى دول الجوار، بل سيكون أداة طيعة في تصفية الخصوم وتحويل ليبيا إلى صومال ثانية لا قدر الله …