
الحلقة الأولى:
-فصول من تاريخ الحزب الشيوعي الجزائري-
لم تكن علاقة الماركسية بالجزائر مرتهنة بظهور الحزب الشيوعي في بداية العشرينات حيث نجد الجذور الاولى لهذه العلاقة قد بدأت منذ زيارة كارل ماركس للجزائر سنة 1881 ( حيث مكث 72 يوما ) غير أن موقفه من الجزائريين والاستعمار الفرنسي لم يخرج عن دائرة المركزية الغربية والنظرة الاستعلائية الاروبية حيث بدا في رسائله التي تحدث فيها عن رحلته تلك شديد النفور من السكان الأصليين ناعتا إياهم بأقذع النعوت حيث يقول في رسالته الى ابنته لاورا بتاريخ 13 أفريل/نيسان 1882 واصفا الجزائريين قائلا ” كانت هناك ثلة من المغاربة يجلسون حول طاولة متهالكة ويحتسون القهوة وكان كل واحد منهم يحمل إبريقا من القهوة وكانوا يلعبون الورق ( وهذا هو الانتصار الوحيد الذي حققته الحضارة ضدهم ) فبدا المشهد مثيرا للغاية ..”
وفي رسالة أخرى وجهها لانجلز بتاريخ 18 أفريل/نيسان 1882 يسخر ماركس من المجاهد الجزائري الكبير بوعمامة ( الذي أعدمه الاحتلال الفرنسي ) ويصفه باللص والقاتل حيث يكتب الى رفيقه قائلا “يجب أن أذكر لك هنا مقلباً دبرته السلطة الفرنسية ضد لصّ مسكين وقاتل محترف من العرب. ففي اللحظة الأخيرة التي يسمّيها اللندنيون الخبثاء لحظة الانطلاق نحو الأبدية، اكتشف بأنه سوف لا يعدم رمياً بالرصاص، وإنما سيقطع رأسه بالمقصلة! نقضاً للتعهّد! فقطعوا رأسه رغم التعهّد المسبق. ولم ينته الأمر عند هذا الحدّ: فقد كان أهله ينتظرون من الفرنسيين إعادة رأس القتيل، مثلما كان مألوفاً بعد الصلب، لكي يخيط الأهل الرأس على الجذع ثانية، فيتسنى لهم دفنه بجسد كامل. لكن الفرنسيين لم يحققوا رغبتهم، فصار الأهل يبكون ويقذفون بالشتائم، ثم ثارت ثائرتهم تماماً. غير أنّ السلطة الفرنسية قطعت الرأس عن الجسّد بالتمام والكمال. والآن إذا ما ذهب الجذع إلى الجنّة، فإنّ محمّداً سيسأله: أين أضعت رأسك؟ أو من ذا الذي فصل رأسك عن جذعك؟ إنّك غير آهل لدخول الجنّة، فلتذهب طعماً سائغاً لكلاب المسيحيين، وهكذا كان الأهل يولولون وينتحبون” (1) لقد ظل ماركس محكوما بنظرة استشراقية تصدر عن صورة نمطية للعرب والمسلمين كان قد أشار إليها ادوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” بوصفها رؤية أروبية مركزية واستعلائية وارستقراطية في جوهرها وبالذات نظرة أروبا الشمالية والوسطى ، ولذا لم يكن غريبا أن نجد مواقف شيوعيي الجزائر تندرج ضمن هذا السياق العام للفكر الماركسي كما سنرى لاحقا سواء في الموقف من الهوية العربية الإسلامية للجزائر أو حق الشعب الجزائري في التحرر والاستقلال من نير الاحتلال الفرنسي.
نشأة الحزب الشيوعي:
تعود جذور التيار الشيوعي بالجزائر الى الاشتراكيين الفرنسيين الذين طردهم نابليون الثالث الى الجزائر بعد انقلاب 2 ديسمبر 1872 و ظل يطلق عليهم اسم الاشتراكيين قبل الانفصال بين الاشتراكيين والشيوعيين ( وبالتبعية شيوعيي الجزائر ) في مؤتمر تور (ديسمبر 1920) ،وقد اعتبر الاشتراكيون حينها ( في مؤتمر قسنطينة 1902 ) ” أن اللغة القومية لا ينبغي أن تكون إلا الفرنسية حتى في مجال الدين الإسلامي كما يجب إغلاق المعاهد الإسلامية ” (2) كما دعا المؤتمر للتصدي لكل حركات المقاومة الجزائرية ذات النزعة الإسلامية حيث جاء في التوصيات ” ينبغي محاربة الاتجاهات الوطنية للأقلية الأهلية المثقفة بكل حزم كما يجب فضحها بكل الوسائل في أعين مواطنيهم من نفس الدين وينبغي التنديد بكل عزم وتصميم بالوطنيين وإعطاء الأهالي انطباعا راسخا من القوة .. ذلك أن قيام حركة أهلية حاليا سيكون لها في حالة نجاحها أوخم العواقب على الاروبيين فالمسلمون إذا ما انتصروا لن يترددوا في ذبح الرجال وتحويل النساء والأطفال الى إماء وغلمان : أي الى رقيق ففي حالة النجاح هذه ستكون النتيجة حتما هي انهزام الاشتراكية وتقهقر الحضارة “(3).
وفي المؤتمر الفيدرالي الشيوعي الذي انعقد في قسنطينة سنة 1921 بعد انفصالهم عن الاشتراكيين اعتبر شيوعيي الجزائر ” أن الاستعمار من وجهة نظر ماركسية إطار ضروري تتطور فيه الأمم المتخلفة لترقى الى مستوى النظام الرأسمالي هو المرحلة الضرورية التي يتولد عنها الانفجار الشيوعي “(4) ولم يكن هذا غير صياغة أخرى للموقف الماركسي الشهير الذي يعتبر الاستعمار أداة التاريخ غير الواعية .
لقد ظل الحزب الشيوعي بالجزائر مجرد فرع للحزب الفرنسي يتبنى أطروحاته وينفذ سياساته وبقي محكوما بأمرين طَبَعَا مسيرته في تلك الفترة وما بعدها :
أولها : انتماء غالبية أعضائه الى الأقلية الاروبية أو الى الطائفة اليهودية وهو ما منعه من التجذر وسط الغالبية العربية المسلمة.
ثانيها : التبعية للحزب الشيوعي الفرنسي الى الحد الذي كان يحتفظ فيه الحزب الشيوعي الفرنسي بممثل دائم في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الجزائري حتى بعد تعريب الحزب سنة 1936 .
استقلالية الحزب الشيوعي الجزائري:
شكل موقف شيوعيو الجزائر من المسألة الوطنية وخاصة الاستقلال عن فرنسا مشكلا حقيقيا بالنسبة لحزب سياسي ينشط في بلد مستعمر وهو في ذات الوقت مجرد اتحادية تابعة للحزب الشيوعي الفرنسي الأمر الذي أدى الى انشقاق عدد من القيادات الشيوعية ذات النفس الوطني ومن أبرزهم احمد بلفول ومصالي الحاج الذي أسس حركة “نجم شمال إفريقيا” وقد عبر عن ضيقه من تصورات الشيوعيين قائلا ” بأن الجزائريين يريدون الاستقلال لوطنهم وليس الوصاية الشيوعية التي تضر أكثر مما تنفع المسلمين الجزائريين” وأكد مصالي الحاج لأعضاء حزبه موقفه بقوله “إننا تركنا شيوعية الموت وتمسكنا بالوطنية التي هي رمز الحياة “. وأمام ضغط الانتشار الذي حققته هذه الحركة الراديكالية وجد الفرع الجزائري نفسه أمام حاجة ملحة للتحول نحو الصبغة الوطنية وبالفعل في أكتوبر 1936 حمل الفرع الجزائري من الحزب الشيوعي الفرنسي اسم “الحزب الشيوعي الجزائري” وقد عقد مؤتمره التأسيسي في الفترة ما بين 17 و18 أكتوبر 1936 بالجزائر وقد أصدر بيان سطر فيه المبادئ والقيم التي يسير عليها الحزب وقد بين هدف الحزب في عبارة “إنقاذ الجزائر من الدمار والانحطاط والموت” وفي نظره لا يكون ذلك إلا بتحرير العامل والفلاح من ظلم “الكولون” و” الانديجيا” الجائر.
وهكذا إذن في عام 1936 استقل الحزب الشيوعي الجزائري بذاته (على الأقل نظريا ) والذي كان قبل هذا التاريخ مجرد اتحادية تابعة للحزب الشيوعي الفرنسي ولكن هذا التغيير لا يعد وكونه مجرد تغيير في المظهر وفي البنية التنظيمية فقط ولم يأت بشيءٍ جديد فيما يتعلق بموقف الحزب الشيوعي الجزائري من المسألة الوطنية.
نشاط الحزب الشيوعي الجزائري ( 1936 ـ 1939 )أمة في طور التكوين:
بدأ الحزب الشيوعي في هذه بمحاولة التقرب من الأحزاب الوطنية الجزائرية وكان هذا المسعى يندرج ضمن إيجاد تحالف بين القوى الوطنية الجزائرية من جهة والجبهة الشعبية في فرنسا من جهة أخرى وهو في خطته هذه ينفذ إستراتيجية الحزب الشيوعي الفرنسي الذي أعلن أمينه العام “موريس توريز ” بأن المهمة الأساسية لفرنسا في العالم هي ” توحيد الشعوب المستعمرة مع شعبنا” وتأييدا لهذا التمشي أعلن الأمين العام للحزب الشيوعي الجزائري قدور بلقاسم في المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي الفرنسي الذي انعقد في شهر ديسمبر 1937 ” بأن المسلمين لا يرغبون أن يكون هناك طلاق بينهم وبين فرنسا بعد الانجازات التي استفادوا منها ” مضيفا ” إننا لم نعرف إلا في الوقت الحاضر بأن الاتحاد بين الشعب الجزائري والشعب الفرنسي يعتبر ضروريا وسيبقى كذلك الى الأبد ” (5) .لقد كان الحزب الشيوعي الجزائري في تلك الفترة يعمل بالتنسيق مع نظيره الفرنسي ودخل في صراعات مع حزب الشعب خاصة حيث تم وصف هذا الأخير بوصفه “منظمة انفصالية تعمل ضد فرنسا ” وقد وصفت صحيفة الحزب الشيوعي الجزائري مصالي الحاج وجماعته بأنهم من المشاغبين وينتمون الى الفاشية الدولية ويقومون باستفزازات عندما يطالبون باستقلال الجزائر (6) .
وبعد فشل حكم الجبهة الشعبية في فرنسا وفشل مشروع ” فيوليت ـ بلوم ” (7) غير الحزب الشيوعي الفرنسي خطته في العمل وأعلن موريس توريز في خطاب له بتاريخ 11 فيفري 1939 بمدينة الجزائر عن ضرورة التحالف بين الجزائر وفرنسا ضد الفاشية العالمية وأكد في نفس السياق أن ” الأمة الجزائرية آخذة في النشوء والتكون بمساعدة الجمهورية الفرنسية “(8) وان هذه الأمة تتضمن أفرادا متحدرين من 20 قومية مختلفة (بربر ، قرطاجنيون ، عرب ، أتراك ، يهود ، يونانيون ، مالطيون ، أسبان ، إيطاليون وفرنسيون ) وكلهم ينتمون في الأصل الى الجمهورية الفرنسية التي لا تتجزأ ولا تقبل القسمة ، ومن هذا المنطلق أصبح الحزب الشيوعي الفرنسي ومن ورائه نظيره الجزائري يدافع عن إدماج الجزائر في فرنسا وخلق كيان جزائري يضم الاروبيين واليهود على أن يضاف إليهم أبناء البلد الأصليين .
لقد ظل الحزب الشيوعي الجزائري يدافع على أطروحة موريس توريز القائلة بأن الجزائر أمة في طور التكوين وأنها جزء من فرنسا الكبرى عاملا على دحض الهوية العربية الإسلامية للبلاد من خلاله استناده لتصور ستاليني لمعنى الأمة وهذا الموقف سيكون سبب تأخر دعم الشيوعيين الجزائريين لثورة التحرير التي انطلقت في الأول من نوفمبر سنة 1954 .
الحزب الشيوعي الجزائري (1954 ـ 1962) العمل المسلح:
ظل الحزب الشيوعي مترددا مع انطلاق ثورة التحرير في أول نوفمبر 1954 حيث تراوح موقفه بين الإقرار بحق الشعب الجزائري في التحرر وبين ولائه التقليدي لأطروحات الحزب الشيوعي الفرنسي الذي يرى أن حرية الجزائر لا تتحقق إلا ضمن الأمة الفرنسية ومن هنا كان بيان اللجنة المركزية للحزب الصادر بتاريخ 9 جانفي 1955 قد تضمن موقفا يؤكد على “أن تطور الكفاح السياسي للجماهير الذي يفرض نفسه يستلزم اتحاد جميع القوى الوطنية الديمقراطية. فلابد من ربط هذا الكفاح بحلفائنا الطبيعيين وبالإطار العالمي الذي توجد فيه بلادنا والتضامن مع الطبقة الشغيلة ومع الشعب الجزائري” (9) وقد تطور موقف الحزب تدريجيا نحو دعم العمل المسلح خاصة بعد انضمام بعض عناصر الحزب الى جبهة التحرير وبصورة فردية الأمر الذي سيفضي الى قرار الحزب بإنشاء جناح مسلح في شهر مارس سماه “مقاتلو التحرير” خاصة بعد أن حل وزير الداخلية الفرنسي في شهر سبتمبر 1955 الحزب وأوقف جرائده الثلاث.
اندمج مقاتلو الحزب الشيوعي في إطار جبهة التحرير الوطني بداية من جويلية 1956 غير أن الحزب ظل محافظا على كيانه التنظيمي وقد أوضح الأمين العام للحزب الشيوعي الجزائري العربي بوهالي هذا الموقف في تصريح له بجريدة “رودي برافو” التشيكوسلوفاكية في مارس 1958 حين قال ” وحزبنا لا يعمل من خلال جبهة التحرير الوطني التي طلبت من الحزب حل نفسه وانضمام أعضائه بصفتهم الشخصية فإن حزبنا يتمسك باحترام كيانه الذاتي واستقلاله السياسي .. ومع ذلك فهو يؤيد كل التأييد كفاح جبهة التحرير الوطني”(10).
من الحزب الشيوعي الى الطليعة الاشتراكية:
بعد استقلال الجزائر سنة 1962(5 جويلية) واتخاذها توجها اشتراكيا معلنا في دستورها تم حظر الحزب الشيوعي مجددا بعد أقل من خمسة أشهر من إعلان الاستقلال (نوفمبر 1962) رغم انه تم التساهل مع الشيوعيين ومنحهم إمكانية الانضواء تحت راية جبهة التحرير الحزب الواحد في الجزائر حينها.
وبعد فترة من السبات أعاد الحزب الشيوعي بناء نفسه من خلال ظهور “حزب الطليعة الاشتراكية” بوصفه كيانا معبرا عن تطلعات الطبقة العاملة وسرعان ما سيجد الحزب نفسه منخرطا ضمن نظام الحزب الواحد معتبرا موقفه نتيجة حتمية “للتطور الديالكتيكي للقوى الاجتماعية في البلاد” (11). ومن هذا المنطلق دعم أفراد حزب الطليعة الخطوات الاشتراكية التي اتخذها بومدين وشكلوا جزءا من الجناح اليساري لجبهة التحرير الوطني طيلة حكم هواري بومدين. وقد عاد حزب الطليعة للتشكل من جديد سنة 1989 بعد إقرار التعددية السياسية في ظل حكم الشاذلي بن جديد وكنتيجة لانتفاضة أكتوبر1988 التي أدت الى تراجع نظام الحزب الواحد.
لم يشكل حزب الطليعة الاشتراكية قوة فعلية في الشارع الجزائري خاصة بعد صعود التيار الإسلامي ممثلا في “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” وكشفت الانتخابات الديمقراطية (البلدية والبرلمانية) التي جرت في البلاد عن ضعف الحزب وعدم قدرته على المنافسة الانتخابية حيث انحصر الصراع الانتخابي حينها بين جبهة التحرير وجبهة الإنقاذ والى حد ما جبهة القوى الاشتراكية .وبعد إيقاف المسار الانتخابي سنة 1992 واندلاع الصراع بين القوى الإسلامية والنظام أصبح حزب الطليعة الاشتراكية يدعو الى توحيد كل القوى العلمانية للتصدي الى ما سماه “الخطر الأصولي” معتبرا أن الكفاح ضد البديل “الرجعي” يشكل أولوية سياسية وحتى بعد تغيير الحزب لاسمه ليصبح “الحركة الديمقراطية الاجتماعية” فقد ظل هاجسه المركزي هو رفض أي مصالحة مع التيار الإسلامي أو إدماجه في الحياة السياسية الجزائرية وهو ما يفسر معارضة هذا الحزب لمشروع المصالحة الذي بنى عليه الرئيس بوتفليقة برنامجه الرئاسي حيث أكد الهاشمي الشريف زعيم الحزب “لم نكن نحن أبدا مع المصالحة لأن المصالحة معناها المصالحة بين الظالم والمظلوم وبين مشروع ديمقراطي ومشروع فاشي معاد أساساً لمصالح الشعب ومعناها رفض القطيعة التي من شأنها وحدها أن توفر شروط الخروج من الأزمة، وفي الحقيقة منطق المصالحة هو الذي أطال عمر الأزمة.”(12).
وبالإجمال يمكن القول أن التيار اليساري الجزائري المنحدر من الحزب الشيوعي ظل يراكم جملة من الأخطاء التاريخية وعدم القدرة على مواءمة نفسه مع التطورات السياسية في البلاد وجعل نضاله ينحصر في قضية الإطاحة بالتيار الإسلامي وهو ما كشف عن قصور وعجز مزمن في سبيل تحوله الى تيار جماهيري فعلي يمكنه المنافسة وتقديم بدائل مقنعة لعموم الشعب الجزائري.
سمير حمدي
تنويه : أنظر المراجع والمصادر في الحلقة الثانية من الدراسة