
توفيق المديني
بعد الهجوم الإرهابي على متحف باردو، الذي شكّل كارثة حقيقية على البلاد، لجهة أن الإرهاب «الداعشي» بات يشن الحرب المعلنة على تونس، طرح الرئيس الجمهورية التونسية السيد الباجي قائد السبسي في خطابه بمناسبة الذكرى التاسعة والخمسين للاستقلال، التي احتفلت بها تونس يوم 20 مارس/آذار 2015، مسألة في غاية الأهمية، تتعلّق بمشروع قانون للعفو والمصالحة الوطنية، الذي انتقل الحديث عنه من مجرد الكلام إلى واقع ملموس بعد موافقة الحكومة على مبادرة رئيس الجمهورية في 14 تموز 2015. وينص هذا المشروع على إجراءات خاصة بالمصالحة في المجال المالي والاقتصادي ولم يتعرض إلى المصالحة السياسية التي يبدو أنه تمّ تركها لمسار العدالة الانتقالية ولهيئة الحقيقة والكرامة، حيث ورد في فصله الأول أنه «يندرج في إطار تهيئة مناخ ملائم يشجع على الاستثمار وينهض بالاقتصاد الوطني ويعزز الثقة بمؤسسات الدولة ويهدف إلى إقرار تدابير خاصة بالانتهاكات المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام تفضي إلى غلق الملفات نهائياً وطي صفحة الماضي تحقيقاً للمصالحة باعتبارها الغاية السامية للعدالة الانتقالية”.
من الواضح أن الدافع الرئيس لسن مثل هذا القانون في تونس، هو الوضع الاقتصادي الكارثي الذي تعيشه البلاد، والذي لم يعد يتحمل مزيداً من التجاذب ومن النبش في الماضي القريب والبعيد.. كما يرمي هذا القانون إلى المصالحة الاقتصادية من خلال النظر في ملف رجال الأعمال والعفو عن الأموال بالخارج. وأيضاً مصالحة التونسي مع العمل، حيث لم يعد يحتمل انكماش رجال الأعمال وتخوفهم من المحاسبة ومنعهم من السفر، وهو ما يعطل العجلة الاقتصادية ويحد من النمو والتنمية المعطلين أصلاً. لذلك يرى الفريق المتنفذ في الائتلاف الحكومي ضرورة طرح مثل هذه المصالحة المالية الوسطية من دون مساءلة كل من أذنب، ومن دون تشهير أو إثارة للفتن أو للعداوات تجاهه، وعندما يعترف تقع محاكمته بطريقة رمزية ثم المصالحة معه على أن يلتزم بعدم تكرار التجاوزات ثم خلاص ما يوجبه عليه قانون المصالحة من مبالغ مالية، وبعد ذلك يقع إخلاء سبيله تماماً وتركه يعمل بكل حرية. ويبدو واضحاً من خلال فصول هذا القانون أن أحد أبرز أهدافه هي إنعاش خزينة الدولة.
إن التركيز على موضوع المصالحة الوطنية في هذا الظرف السياسي والتاريخي التي تمر به تونس، ليس بريئاً لأسباب داخلية وأخرى خارجية. فحزب «نداء تونس» وزعيمه التاريخي السيد الباجي قائد السبسي رئيس الجمهورية وقع في نفس الخطأ التاريخي الذي وقعت فيه حركة النهضة عندما استلمت السلطة عقب انتخابات 23 أكتوبر 2011، وهو عدم إدراك أن الشعب التونسي الذي صنع ثورته، وأسقط النظام الديكتاتوري السابق، يحتاج إلى بناء دولة ديموقراطية تعددية، وخلق مجتمع جديد، وانتهاج خيار اقتصادي واجتماعي جديد يجسد القطيعة مع الخيارات الاقتصادية والاجتماعية المنحرفة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، والتي أدّت في الواقع إلى إثراء أقلية من العائلات المرتبطة بالسلطة، وكبار رجال الأعمال على حساب إفقار معظم طبقات الشعب التونسي، بما فيها الطبقة المتوسطة، التي تعتبر أكبر طبقة اجتماعية موجودة في تونس. كما أن الحكومة التونسية أخفقت في طرح مشروع حقيقي لمحاربة الاحتيال الضريبي، وتجريم الاختلاس الضريبي، المتفشي بشكل كبير في تونس، والذي يَحْرُمُ الدولة من أكثر من 9 آلاف مليار دينار، أي ما يعادل 5,4 مليارات دولار، وهو ما يمثّل تقريباً ثلث ميزانية البلاد.
وفي الوقت الذي أصبح فيه الشعب التونسي، لا يرى نموذج البطولة إلا في أكثر الاحتياليين مهارة من رجال الأعمال في المجال الضريبي، طرح رئيس رئيس الجمهورية قانوناً للمصالحة الوطنية يقوم على طي الملفات الكبرى التي لا تزال موضوع خلاف في المجتمع التونسي، بين فئة رجال الأعمال في العهد السابق المتهمين بالفساد والإثراء الفاحش في العهد الديكتاتوري السابق، والذين في معظمهم ينتمون إلى «حزب التجمع« المنحل، وفي الانتخابات الأخيرة ركبوا موجة «حزب النداء» الذي أصبح حاكمًا في البلاد، وبين طبقة سياسية جديدة استولت على السلطة بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011، وأصبحت تلقب بطبقة «الأثرياء الجدد» المنبثقة من حركة الإسلام السياسي، والتي لم يكن لها نظرية للاقتصاد، بل هي انساقت في نهج الليبرالية المنفلتة من عقالها التي سقطت في الولايات المتحدة الأميركية نفسها، وفي غيرها من الدول الغربية عقب وقوع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية سنة 2008، ولم تقم بمراجعة نقدية للنموذج الطفيلي الذي كان سائداً في تونس، حيث وصل إلى مأزقه المحتوم.
لا شكّ أن مشروع قانون بهذا الحجم ويتعلق بالمصالحة الاقتصادية مع رجال الأعمال، كان من المفروض أن يخضع لاستشارة وطنية موسعة تشمل جميع الأطراف لأنه شأن وطني يتجاوز الحكومة ورئيس الجمهورية ليشمل كل التونسيين الذين تضرّروا من حقبة حكم موسومة بالاستبداد السياسي والفساد المالي. كما أن هذا المشروع يتناقض مع مسار العدالة الانتقالية، الذي لا بدّ من احترامه واحترام الهيئة الدستورية المخوّل لها قانوناً البت في هذه الملفات، أي هيئة الحقيقة والكرامة. وقد حدّد قانون العدالة الانتقالية الصادر في كانون الأول/ ديسمبر 2013، بكل دقة شروط وإجراءات المحاسبة والمصالحة دون حاجة إلى قانون آخر، فضلاً عن أن العدالة الانتقالية تعني المحاسبة والاعتراف ثم إمكانية المصالحة.
يبقى أن أعظم جرائم نظام بن علي السابقة، تقع في الحقل الاقتصادي، وهنا يدور اختبار أساسي لتحقيق أهداف الثورة، والمصالحة الوطنية. فقد اتضح أن أوساط المال والأعمال مسؤولة جداً عن مساندتها للنظام السابق، وأسهمت في تعميق الهوة بين الفقراء والأغنياء. ومن هنا، فإن تحصين الثورة يبدأ ليس بالإقصاء لطرف سياسي، لأن هذا الإقصاء جزء من عملية التطهير الستالينية الشمولية، بل يجب اعتماد ضريبة للنمو، تفرض استثنائياً على الشركات والمداخيل الخاصة، إضافة إلى ضرورة تطبيق قانون العدالة الجبائية على فئة كل رجال الأعمال مع مفعول رجعي على أرباح مؤسساتهم، وتوظيف هذه الأموال في استثمارات منتجة تخدم مشاريع التنمية في الولايات الفقيرة والمهمشة.
إن المبرّرات التي قدمتها رئاسة الجمهورية لتمرير مشروع القانون المتعلّق بإيقاف المحاكمات والملاحقات وتنفيذ العقوبات في حق الموظفين العموميين وأشباههم وذلك في خصوص الأفعال المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على الأموال العمومية، بحجّة أنه يهدف إلى النهوض بالاقتصاد الوطني والاستثمار، أمر مرفوض. لأن مشروع القانون يتناقض مع الدستور الذي يلزم الدولة التونسية بتطبيق مسار منظومة العدالة الانتقالية عبر إفساح في المجال لهيئة الحقيقة والكرامة لممارسة صلاحياتها وعدم سحب أي ملف من ملفات العدالة الانتقالية منها.
هناك أكثرية حقيقية لدى مكونات المجتمع المدني والأحزاب السياسية الديمقراطية، ترى أن مشروع قانون المصالحة قد يكون وسيلة لتكريس الإفلات من العقاب وعودة الذين استفادوا من محيط الفساد المالي في عهد الديكتاتورية على حساب مصلحة البلاد والشعب، لا سيما أن رئيس الجمهورية يريد أن يكافئ داعميه من رجال الأعمال المتعلقة بذمتهم قضايا تتعلق بالفساد والمال العام على غير وجه حق بتسوية وضعياتهم القانونية مكافأة على دعمهم له في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بحسب قولها. فـ«طي صفحة الماضي« كما جاء على لسان رئيس الجمهورية لا يتم دون اتخاذ الخطوات الضرورية اللازمة التي تقوم على كشف الحقيقة، فالمحاسبة، ثم المصالحة، لا سيما أن أولوية مؤسسات الدولة بعد الانتخابات الأخيرة هي ترسيخ دولة القانون ودعم المسار الديموقراطي وتكريس مبدأ التنسيق والتشاور بين كل مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني حتى تستطيع تونس مواجهة كل المخاطر التي تهددها، ومنها خطر الإرهاب.
صحيفة المستقبل اللبنانية– الجمعة 7 أوت 2015