
علي عبد اللطيف اللافي
يضع كُل الليبيين بل العالم بأسره رهانات كبرى على الحوار الدائر بين مختلف الفرقاء في مدينة جينيف السويسرية بعد أن تم نتظيم حلقاته السابقة في مدينة الصخيرات المغربية تحت إدارة وإشراف المبعوث الأممي، ولكن ما هي حظوظ نجاح هذا الحوار الذي تعددت حلقاته؟ وما هو مدى تأثير الضغوط الداخلية و تعدد التحديات الإقليمية والدولية في نجاح الحوار من عدمه؟
مأزق المسودة الرابعة الذي حله لقاء الجزائر
أدرك الجميع في ليبيا استحالة الحسم العسكري وبالتالي أيقن الجميع بضرورة الانخراط في مشروع الحل السياسي، و المعلوم أن الحوار استمر بين الفرقاء الليبيين حوالي ثمانية أشهر وتوج باتفاق سياسي في شكل وثيقة دستورية متكاملة تضمنت عمليا ديباجة ومجموعة من المبادئ الحاكمة تشرحها69 مادة (1) .
وعمليا وجدت المسودة الرابعة والأخيرة رضا أطراف من الجهتين المتخاصمتين في طرابلس وطبرق وكذلك رفض أطراف أخرى لها، حيث بقى تحفظ المؤتمر الوطني عليها و رفضه التوقيع بالأحرف الأولى عليها عقبة رئيسية أمام بداية تفعيل نص الاتفاق، وهو ما أدركته البعثة الأممية والقوى الدولية جيدا حيث وقفت على أنه لا حل في غياب المؤتمر لما يمثله من ثقل ميداني وواقعي …
و وقطع لقاء الجزائر نصف الحل وهو اللقاء الذي جرى يومي 30 و31 جويلية الماضي بطلب من ليون، وضم عمليا وفدا من المؤتمر الوطني إلى جانب وزير الخارجية الإيطالي “باولو جنتيلوني” و عبد القادر مساهل وزير الخارجية الجزائري حيث تم الاستماع لمشاغل المؤتمر ولإقناعه بضرورة الالتحاق بالصخيرات (2) …
ويمكن اعتبار تصريح الوزير الإيطالي بعد اللقاء يصب في مصلحة المؤتمر حيث صرح ” نحن نتشارك مع المؤتمر في العديد من مخاوفه واعتراضاته على المسودة ونرى أنه لا يمكن إنجاح الحوار بدونه، لكننا نعتقد أنه من الممكن إيجاد حلول لاعتراضاته وتحفظاته من خلال الاستمرار في المشاركة وإبداء آرائه الأسابيع المقبلة”[1]، كما وجه وفد المؤتمر رسالة طمأنة إلى الشعب الليبي مفادها أنه لن يقف عاجزا أمام الأزمة الحالية وسيسعى جاهدا من أجل إيجاد حلول سريعة حقيقية وعملية توفر الأمن والاستقرار للمواطن الليبي وتحافظ على الثوابت والسيادة الوطنية وتحقق أهداف ثورة فبراير التي قامت من أجل الليبيين جميعا وليس من أجل مجموعة معينة، و قد صاحب لقاء الجزائر وقفات ومظاهرات مساندة لموقف المؤتمر عمت أغلب ميادين المدن”(3)..
الفريق الأممي يبحث عن الخروج من المأزق
لقد سبق لقاء الجزائر اجتماع ليون بوفد من مدينة الزاوية حيث ضم الوفد أعضاء من مجلس النواب وممثلين عن المجلس البلدي وعن الثوار، وقد أكدوا عن دعمهم الكامل للاتفاق السياسي حيث أنه يمثل فرصة حقيقية لحل الأزمة واقترحوا أن يتم توضيح أي سوء تفاهم أو غموض من خلال ملاحق النص، وأكد ليون خلال الاجتماع على نقاط عدة من أهمها (4):
– أن الاتفاق السياسي يحتوي على أحكام واضحة بشأن تفعيل إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية بالاستناد إلى مبادئ الشفافية والمساءلة وسيادة القانون وسيتم اتخاذ جميع القرارات المتعلقة بالمؤسسات الأمنية من خلال التوافق الوطني.
-هناك حاجة ماسة لقيام الضباط والعسكريين وضباط الشرطة والثوار الليبيين بالاتفاق على تنفيذ الترتيبات الأمنية المؤقتة ودعمها من خلال المسار الأمني للحوار، ويجب إيجاد بيئة شاملة و آمنة في طرابلس وبنغازي وفي جميع أرجاء ليبيا لكي تتمكن حكومة الوفاق من العمل في جو خال من التهديدات والعنف…
– تقديره للدور الذي لعبه الثوار خلال ثورة فبراير ويرفض نعتهم ب،”الميليشيات الإرهابية” حيث هذا لن يسهم في إيجاد حل للأزمة(5)…
وعمليا يعتبر الزمن ليس في صالح الفريق الأممي وهو يمارس ضغوطا شديدة على جميع الأطراف للاتفاق على وثيقة نهائية بملاحقها التفصيلية والدليل على ذلك هو التحاق فريق المؤتمر الوطني ونقل مكان المؤتمر من الصخيرات إلى جينيف، فتاريخ نهاية ولاية البرلمان قد قربت عمليا وهي المحددة بيوم 20 أكتوبر من السنة الحالية، وهو ما يعني عمليا تغيير قواعد اللعبة بالكامل وبشكل جذري مع إمكانية أن يعود الحوار لنقطة الانطلاق وعنذئذ ستنفتح البلاد عمليا على كل الاحتمالات، وهو ما يعني وبشكل حتمي الاحتكام بعدها إلى سياسة الأمر الواقع الخاضع لموازين القوى العسكرية والبشرية والقبلية ومنطق من له أتباع أكثر وقدرات تدريبية على خوض المعارك الميدانية والقدرة على حسم الصراع في وقت سريع مع الجاهزية للتزود بالسلاح والمؤونة من الداخل ومن الخارج ….
رهانات وتحديات على الجولة القادمة للحوار
إن التوقيع بالأحرف الأولى وإن كان غير نهائي حسب العرف والقانون الدوليين إلا أنه يعتبر التزام أخلاقي بين أطراف النزاع، وهذا ما جعل المؤتمر يتحفظ على التوقيع خشية أن تأتي الملاحق التفصيلية مخالفة لقراءته لنص الوثيقة، وبالتالي يصبح التنصل من التوقيع مكلفا أخلاقيا وسياسيا…
وعموما يمكن القول أن لقاء الجزائر سيجعل المؤتمر يدخل الجولة القادمة من المفاوضات أكثر قوة مستندا إلى تحفظاته المشروعة وإلى السند الشعبي الذي عبرت عنه الجماهير في وقفاتها في الميادين الليبية، كما أن القوى الكبرى التي هددت كل طرف معرقل للحوار بعقوبات شديدة بل و أعلنت أن هذه المسودة سوف تكون الأخيرة نراها اليوم تطلب من المؤتمر الالتحاق بالحوار وتجد تحفظاته مساندة من دولة مهمة في حجم إيطاليا إلى جانب الرسالة الواضحة التي أرسلتها السيدة “ديبورا جونز” السفيرة الأمريكية من خلال الحوار الذي أجرته معها صحيفة الحياة[2]، وكانت متزامنة مع لقاء الجزائر حيث قالت “إن حفتر مثير للإشكال ورصيده موضع جدل”، كما صرحت “بأنه لا يعود للمجتمع الدولي تحديد أين يتوقف مسار يفترض أن تكون مرجعيته في الدستور، علينا الدفع إلى الأمام والتوصل إلى حكومة وطنية يمكن للجميع دعمها”(6) ، و رفضت الجزم بأن المسودة الرابعة ستكون الأخيرة رغم أن تصريحها يؤول في عديد الإتجاهات والجميع يذكر موقف السفيرة الأمريكية إبان الأزمة العراقية – الكويتية…
عودة اللحمة للصف الوطني في انتظار نجاح الحوار
لقد كان للقاء الجزائر وقعه على المجتمع الليبي بل و داخل معسكر الثورة، فالأطراف المحسوبة على الثورة والتي رحبت بالاتفاق وسارعت إلى التوقيع والتي كانت تلوم المؤتمر على موقفه الرافض للوثيقة بل ثمة من اتهمه بأنه ضد المصالحة الوطنية وأنه خاضع لأجندات مشبوهة وأن موقفه سيجر البلاد إلى المجهول وأنه لم يراع التوازنات الداخلية والخارجية، نرى هذه الأطراف اليوم تبارك للمؤتمر صموده وترى في لقاء الجزائر نصرا للمؤتمر ورضوخا من ليون الذي لم يكن نزيها ولا محايدا في مواقفه (7) …
إن لقاء الجزائر أعاد اللحمة لليبيين وللثوريين بالأساس حيث جدت خلافات عميقة في الأشهر الأخيرة وتجلى ذلك في تشكيل لواء الصمود بقيادة العقيد صلاح بادي، كما أعاد الأمل لأنصار الثورة في الشارع في الحفاظ على مبادئ فبراير في ظل الهجمة الشرسة لقوى الثورة المضادة …
في مقابل ذلك رحبت حكومة طبرق بالاتفاق رغم المخاوف على موقع الجنرال حفتر و الذي يضغط بكل قوة لأن يحافظ على موقعه الحالي في قيادة القوات المسلحة وفي بقاء البرلمان كقوة تشريعية وحيدة في البلاد، و مع ذلك برزت بعض الأصوات التي عبرت عن تخوفها من مخرجات هذا لقاء الجزائر يومي 30 و 31 جويلية الماضي، فقد عبر أبو بكر بعيرة عضو فريق الحوار عن برلمان طبرق عن رفضه لأي مبادرة تنزع صفة حفتر باعتبار ذلك مسا من صلاحيات البرلمان الذي عينه على رأس المؤسسة العسكرية…
ولعل أهم نُقطتي خلاف في المسودة الأخيرة هما صلاحيات “المجلس الأعلى للدولة” والذي يطالب المؤتمر الوطني بأن يكون له دور تشريعي معدل في القرارات الكبرى للدولة والتي يجب أن تنفذ بالتوافق بينه و بين البرلمان، أما النقطة الثانية فتتمثل في الترتيبات الأمنية وطبيعة الأطراف العسكرية والأمنية التي ستكون الذراع التنفيذي لحكومة الوفاق، فالبرلمان يعتبر أن نواة الجيش هي الكتائب التي تقاتل مع حفتر ويطلق عليها اسم الجيش الوطني، وهو يطالب بأن تكون هذه القوة هي الأداة التنفيذية للحكومة وتكون هذه القوات تحت قيادة حفتر الذي أسسها وهو ما ترفضه بالمطلق أغلب مكونات ثورة فبراير(8) …
وعمليا إذا استطاع حوار جينيف تجاوز النقطتين في نص الاتفاقية فإنه يكون قد قطع خطوة عملاقة نحو الاتفاق النهائي بين جميع القوى السياسية والعسكرية في ليبيا، لينتقل إلى المسار الثاني وهو المسار التنفيذي الذي تنتظره عديد الصعوبات التي يمكن تجاوزها مع قليل من الوقتِ حيث تؤكد كل الأطراف أنه يمكن تشكيل الحكومة في أفق شهر سبتمبر المقبل، ولعل ما يبعث على التفاؤل في قادم الجولات هو أن كل القوى في ليبيا متفقة على ضرورة الحل السياسي، ويبقى الخلاف على طبيعة هذا الحل وعلى كيفية إقناع جميع الأطراف به…
خطر داعش والواقائع على الارض شرقا وغربا
إن الجولة الحالية من المفاوضات ستكون منعرجا في الحوار وحظوظ نجاحها كبيرة بالنظر للأشواط التي قطعت، فالمسودة في المجمل متوازنة وتُلبي رغبة جميع الأطراف بأقدار مختلفة ويمكن اعتمادها كحل في بلد تمزقه الخلافات العميقة إذا أدخلت عليها عددا من التعديلات بشكل يرضي طرفي الصراع، وما يُشجع على نجاح المبادرة رغبة قطاع عريض في الشارع الليبي الذي يدعو وبقوة لضرورة الوصول إلى حل ينهي مأساة البلاد خصوصا مع بروز معطى جديد داخل الساحة وهو تنظيم التنظيم الدولة الإسلامية الذي يهدد الجميع داخل وخارج ليبيا، بل ان هذا التنظيم يحمل أجندة عليها عددا من نقاط الاستفهام وهو يسيطر على منطقة في الوسط الليبي مدينة سرت والتي قد يقع طرده منها اثر بدء العمليات ضده، و وهو تنظيم يسعى للتمدد شرقا نحو الموانئ النفطية وجنوبا نحو منابع النفط وفي تحالف مشبوه مع أنصار القذافي الذين رفعوا أخيرا الرايات الخضراء وسط المدينة تحت رقابة ونظر الدواعش كما فعلوا ذلك في بنغازي …
ولا يختلف إثنان في تقييم مفاده أن هذا التنظيم صنيعة واضحة وهو مركب ومهيئ لغاية إعطاء مبرر للقوى الدولية لغزو ليبيا تحت ذريعة مقاومة الإرهاب في صورة الفشل في الوصول إلى حل سياسي يبني الدولة من جديد ويجلب لها الدعم الإقليمي و الدولي…
إن ما يُهدد حالة الاستقرار التي عرفتها البلاد في الشهرين الأخيرين بفعل المصالحات التي أبرمت بين المدن والقوى العسكرية في المنطقة الغربية والذي انجر عنها إيقاف كل جبهات القتال هي المشاكل القائمة الآن في الجنوب الليبي بفعل تجدد القتال بين مكوني “التبو” و”الطوارق” في “أوباري” و”سبها”، فالمتابعون يؤكدون أن “التبو” ذوي الأصول التشادية مدعومون من تشاد و دول أوروبية و يسعون إلى تقويض الاستقرار في هذا الإقليم المهم الغني بالنفط والمفتوح على تشاد والنيجر وكل منطقة الصحراء الكبرى، بل أن مكون التبو مدعوم أيضا من حفتر وهم يقاتلون معه في بنغازي تحديدا(9) ….
أما في المنطقة الغربية فإن الأوضاع مستقرة عسكريا وستتولى قوة من مدن الجبل ومن الجميل و رقدالين و زوارة تأمين الحدود مع تونس في إطار قوة نظامية تعمل تحت إمرة حكومة طرابلس و الغاية من ذلك تكثيف القوة العسكرية حتى لا تتمكن المجموعات المتطرفة من التنقل بين حدود البلدين…
وفي الشرق الليبي لازال حفتر يدفع بجنوده نحو بنغازي دون أن يتمكن من السيطرة عليها بل أن موازين القوى أصبحت في غير صالحه ومجلس شورى الثوار انتقل من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم وسيطر أخيرا على عديد المواقع المهمة في المدينة والتي كانت تحت سيطرة قواته، وهناك أنباء تتردد بقوة أن الولايات المتحدة طلبت من مصر إيقاف دعمها للجنرال المغامر وقد يكون ذلك هو السبب في التراجع الكبير الذي عرفته قواته في بنغازي، أما في درنة تمكن مجلس شورى ثوارها من تطهير المدينة من الدواعش في عملية أطلق عليها اسم “فهل ترى لهم من باقية” والآن يلاحق فلولهم في المرتفعات والمناطق القريبة من المدينة…
أما من الناحية الاقتصادية فإن البلاد تعيش أزمة واضحة نتيجة تقلص مداخيل النفط الذي نتج عنه ضعف في رصيدها من العملة الصعبة والذي أثر بشكل واضح في قدرتها على الاستيراد، كما أن رفض البنك المركزي الليبي تسيير الميزانية لحكومة الإنقاذ الوطني بفعل ضغط دولي شديد أثر بشكل واضح على الخدمات المقدمة للمواطنين، ومعلوم أن الغاية من ذلك الضغط هو الدفع نحو قبول الحل السياسي من أجل تشكيل حكومة وطنية مدعومة دوليا…(10)
ويمكن التأكيد انه لو قُدر للحوار الليبي النجاح وهو أمر جد منتظر بناء على تسارع التطورات الايجابية مقابل الصعوبات والعقبات والتحديات فإن هذا البلد مرشح للعب دور إقليمي مهم بل ورئيسي مما يعطي أملا لاستفادة العرب والمسلمين من موجة الثورات التي فتحتها الثورة التونسية ومما يدفع بالحلم أن يعود العرب والمسلمون للتاريخ …
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
[1] – اعتمدنا بشكل أساسي وداخل نص تحليلنا هذا، على معطيات وخلاصات التي توصلت إليها الورقة القيمة للباحث في العلوم السياسية “المهدي ثابت “، وقد تم نشر الورقة مفصلة في موقع مركز الدراسات الإستراتيجية والدبلوماسية….
2 – لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة الصحف الجزائرية اليومية ليوم 1 أوت 2015
3 – ورقة الباحث المهدي ثابت المنشورة في مركز دراسات الإستراتيجية والدبلوماسية تحت عنوان ” “
4 – نفس المصدر بتصرف
5 – يمكن مراجعة موقع وكالة ليبيان للاطلاع على تفاصيل ذلك
6 – لمعرفة النقاط التي أوردها المبعوث الأممي ، راجع دراسة الباحث المهدي ثابت المشار إليها أعلاه ….
7 – يمكن مراجعة موقع ليبيان، للاطلاع على تفاصيل التصريح
8 – دراسة الباحث المهدي ثابت المشار اليها أعلاه (بتصرف)
9- الصفحة الرسمية لموقع المنارة لإعلام
10 – دراسة الباحث المهدي ثابت المشار اليها أعلاه (بتصرف)
مقال مسروق من مركز الدراسات الاستراتيجية و الديبلوماسية و هذا رابط المقال للتاكد http://wp.me/p6fAKC-2eX
سيقع تتبع ناشر المقال السيد ”علي عبد اللطيف اللافي ” قانونيا لنشره مادة خاصة بمركز الدراسات الاستراتيجية و الديبلوماسية دون مراجعته و اخذ الاذن منه و نسبها لنفسه في بادئ الامر .